د. دندشلي - تاريخ حزب البعث - الدكتـور علـي جابـر(3)
المقابلة الثالثة مع
الدكتـور علـي جابـر
بتاريخ 12 شباط 1987
الموضوع: تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوُّره
من خلال التجربة الذاتية…
أجرى المقابلة والتحرير: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … في هذه المقابلة، فإن سؤالي الأول، إذا سمحت، إنما يتعلق بوضع حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان والعلاقة المزدوجة من جهة، بمصر الناصرية وعبد الناصر بالذات، ومن جهة أخرى بفرع الأم لحزب البعث في سوريا، أعنى به القيادة القومية التي كان على رأسها الأستاذ ميشال عفلق…(*)
الدكتور علي جابر: … في مقدورنا أن نقول إن فرع الحزب، حزب البعث العربي في لبنان، قد كان في تلك الفترة في عزِّ نُموِّه، في مرحلة الخمسينات، بينما فرع الحزب "الأم"، وبالمقارنة مع هذا الفرع الأساس في سوريا، قد كان في حالة ـ إذا جاز التعبير ـ اهتراء. وهو يقوم نشاطه السياسي على السُّمعة (الوطنية والقومية) الماضية وإنجازاته السابقة. ذلك أنه في الخمسينات، كان قد بدأ الجيش السوري يلعب الدور الأول في حياة سوريا السياسية، وبصورة خاصة بعد أن لعب الدور الأول في انقلاب حسني الزعيم ومن ثمَّ في انقلاب الحناوي وانقلاب الشيشكلي. إذن، وحتى بعد مرحلة حكم الشيشكلي والانقلاب عليه، وفي أواسط الخمسينات، بقيَ الجيش يلعب دوراً (مهماً)، ولكنه خفياً ومن وراء الستار، رغم أن هذه الفترة ـ وهي فترة أربع سنوات ـ بين سقوط نظام حكم الشيشكلي وقيام الوحدة السورية ـ المصرية، قد كانت بنظري العهد الذهبي في حياة سوريا. إننا نستطيع أن نقول وإلى حد بعيد قد كان الشعب يقود نفسَه. وكان الحكم قائماً على نوع من "الجبهة الشعبية"، الجبهة الشعبية المتآلفة، المتحاورة، المتعاونة، (فقد كانت تُسمى "الجبهة الوطنية المؤتلفة") وخصوصاً أمام المخاطر الخارجية، سواءٌ في مواجهة حلف بغداد أو المشاريع العسكرية الغربية أو "مبدأ أيزنهاور"، إلخ… إلخ..
في هذه الأجواء السياسية العامة في المنطقة، فقد كان الحكم في سوريا هو حكم جبهوي، وطني إلى حدٍ بعيد، والشعب متآلف معه، لا سيما بعد نجاح القيادة السورية وتغلبها على المؤامرة الداخلية بعد اغتيال العقيد عدنان المالكي، وفشل هذه المؤامرة وهي في مهدها، مما جعل الشعب السوري أن يقف صفاً واحداً في خطٍ وطني شديد الوضوح.
وفي المقابل، فقد كان نجم عبد الناصر يتألَّق في كل الجهات الأربع، وكان بالمثال عهداً ذهبياً في حياة الأمة العربية، في ما يتعلق بسوريا وبمصر أيضاً: في سوريا الشعب مسيَّس وبقيادة وطنية، جبهوية، بينما في مصر الشعب فَقَد قيادته الوطنية (؟؟)، وهو غير مُسيَّس، كما هي الحال في سوريا. في لبنان، كان حزب البعث يعيش هذا العهد الذهبي. وكان هناك مدٌّ وطني (وقومي عربي) وقد استفاد البعث من هذَيْن الأمرَيْن: استفاد من سمعة فرع الحزب "الأم" في سورية (السمعة الوحدوية والتقدمية) واستفاد أيضاً من سمعة الجيش السوري وما يلعبه من دور وطني، ومن الجبهة الوطنية التي كان حزب البعث فاعلاً (إذا لم نقل قائداً) فيها، وهو فاعل في هذه الجبهة على صعيد القيادات المكوِّنة لها وعلى صعيد الرأي العام. وإن ما عنيته في قولي إن حزب البعث في سوريا كان في حالة اهتراء، إنما هو كتنظيم في الداخل (أي وضعه التنظيمي الداخلي)، بمعنى أن تنظيمه الداخلي القوي أخذ يضعف وبدأ ينقسم على نفسه وتلعب فيه تيارات وتكتلات عديدة.
أما حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، فقد كان يستفيد من هذا التآلف التاريخي ـ وذلك قبل قيام الوَحدة ـ بين قيادة عبد الناصر والسياسة الوطنية والتقدمية في سوريا، والتي أشرنا إليها في ما سبق. من هنا، وفي هذا السياق الوطني العام، فقد كان هذان القُطْبان ينعكسان على حياة حزب البعث في لبنان. وكان ثمة نوع من "التحالف" الاندماجي (غير المعلن) بين تيار البعث العربي في لبنان وبين الجماهير الناصرية العريضة.
س: … في تلك الفترة التي نتحدث عنها ـ 1954 ـ 1958 ـ هل كان هناك جماهير تُسمَّى أو يُطلق عليها اسم "الناصرية"، أم أن حزب البعث العربي الاشتراكي كان يُعتبر بنظر الجماهير هو الذي يمثل هذا التيار الجماهيري، الوطني والقومي، الذي يقوده، معاً، الرئيس عبد الناصر وحزب البعث العربي؟!… بمعنى آخر إن تعبير "الناصرية"، وكاصطلاح سياسي ـ قومي، هل ظهرت على ألسنة الجماهير والرأي العام العربي في تلك الفترة، 1956 ـ 1958؟!…
ج: … كانت الناصرية في طور الظهور والانتشار والقوة. وكما هي العادة في لبنان، ابتدأت القيادات تنقل البارودة من كتف إلى كتف، منها عن إخلاص ومنها عن عدم إخلاص (أو انتهازية)، إنما هي مع "القيادة التاريخية"، أي مع القوة السياسية الصاعدة. ولكن حزب البعث العربي كان قد بقيَ حريصاً على التميُّز من الجماهير الناصرية، بمعنى أنه حركة قومية عربية نَدَرت نفسها للقضية العربية قبل عبد الناصر. وهي حركة عربية تؤمن في داخليتها الذاتية أنها حركة قومية دائمة حتى بعد جمال عبد الناصر. لذلك كنا نسميها أحياناً "حركة ناصرية"، أي تياراً حزبياً متميِّزاً… إلاّ أنه قد كان لجمال عبد الناصر موقع احترام وتقدير لدى جماهير حزب البعث وقياداته، وأستطيع أن أقول: مع شىء من التحفُّظ.
س: … حتى بعد أعوام 1956 و1957 و1958، أي بعد تأميم قناة السويس والاعتداء العسكري الثلاثي على مصر؟!…
ج: … فمن الزاوية الأيديولوجية، فإن التحفُّظ ما زال قائماً. إنما يخفُت فترة من الزمن أمام الانتصار الساحق لعبد الناصر، التحفُّظ يخفُت ولكنه لم يَزُل، بنظر البعثيين القياديين العقائديين الحقيقيِّين. وحتى بالنسبـة إلى حزب البعث في سوريا، وهو الفرع الأم، والذي فضَّل أن يحلَّ نفسه من أجل الوَحدة مع مصر عبد الناصر ـ وهذا له أسبابه ـ فمن وجهة نظرنا أن الحزب في سوريا كان قد خطا هذه الخطـوة حينـذاك من أجل أن يصيب هدفَيْن: الهدف الأول هو لتحقيق "نصر تاريخي" ـ كما كان يعتبره ـ في قيام الوَحدة بين قطرَيْن عربيَّيْن مهمَّيْن، هما سوريا ومصر. والهدف الثاني، هو نوع من الهروب من الواقع الداخلي، الهروب من واقعه الحزبي. إن الواقع الحزبي للفرع الأم في سوريا، لم يكن يبعث على التفاؤل، ذلك أنه كان يسير في طريق مسدود إلى حدٍّ ما، والقيادة "التقليدية" (التاريخية) مقصِّرة في واجباتها (التنظيمية الداخلية وسياستها القومية) ولم تخلق بعد أو توجد القيادات الجديدة التي يمكن أن تحلَّ مكانها. فوجدت نفسها والحالة هذه في مفترق طرق.
إذن، فإن الخطوة التي خطاها حزب البعث وهو الفرع الأم، إنما هي، كما قلنا، لتحقيق هدفَيْن: الهدف الأول إقامة الوَحدة بين القطرَيْن، والهدف الثاني الهروب من واقعه الحزبي، على أمل أن العناصر الحزبية ذات النَّفَس الطويل والعمل النضالي الدؤوب، يُفسح لها في المجال أن تطمح حينذاك وتتأمل في أن تقود عمل شعبي جديد في ظل الوَحدة وضمن إطار الجمهورية العربية المتحدة، وذلك على ضوء خبرتها الحزبية السابقة. من هذا المنطلق، فقد كانت بُنيت الوَحدة على أمنيات، وهي لم تُبْن على أسس صلبة. والدليل على ذلك أنه ولأول مرة في التاريخ، لو كان حزب البعث واثقاً من نفسه وهو يقوم على قاعدة (قيادية) صلبة في سوريا، لا يقبل في أن يحلَّ نفسه. وهذا على أساس أننا كوفد من القيادة القطرية في لبنان، كنا قد حملنا قراراً وباسم القيادة نعترض فيه على حل الحزب في سوريا. نعم، قيادة الحزب في لبنان، ممثلة مني ومن عبد الوهاب الشميطلي وشخص ثالث لم أعد أذكره، كنا قد حملنا هذا القرار الحزبي من القيادة القطرية في لبنان، لكي نعترض على هذا الحلّ.
والسبب في ذلك إنما هو من حيث المبدأ الحزبي في الأساس ومن حيث أيضاً تربيتنا الحزبية. ذلك أن استمرارية الحزب، حزب البعث العربي الاشتراكي، في نظرنا، هي ضرورية من أجل استمرار الوَحدة وحمايتها.
س: … هنا يُطرح سؤال: هل كان لديكم آنذاك تخوُّف من الرئيس جمال عبد الناصر ونظامه في مصر، وخصوصاً من ناحية الديمقراطية والحريات العامة؟
ج: … هذا الجانب قد كان من جملة الأسباب التي جعلتنا نعترض على حلِّ الحزب في سوريا. ومن الناحية الأخرى، أهمية وجود الحزب وضرورة استمراريته، ومن ثمَّ التخوُّفات الأخرى التي بدت لنا. ولكننا فوجئنا بالتبريرات التي قدمتها قيادة الحزب في سوريا ـ كما هي العادة ـ وطرح الأعـذار والحُجج بهـدف تبرير هـذه الخطـوة في الحلِّ. وإن حلَّ الحزب في سوريا إنما هي حالة موقَّتة وسيتبعها استمراريـة في تنظيـم شعبـي جديـد قادم، سوف يلعب فيه حزب البعث، وإن بصيغة جديدة الدور الأساسي.
في الحقيقة، لقد كان موقفنا الحزبي نحن في القيادة القطرية في لبنان، أسلم من موقف القيادة القومية في سوريا. ذلك أن موقف الحزب في سوريا كان قد خطا خطوة فيها كثير من الضعف: ضعف أولاً أنه حلَّ نفسه (كباقي الأحزاب الأخرى إلا الحزب الشيوعي السوري)، وثانياً أنه لم يقف عند القرار الذي اتخذه حزب البعث، وهو قرار مفاده أن تجري مباحثات الوَحدة على أساس المشروع الذي كان يحمله وزير الخارجية السوري صلاح الدين البيطار ـ وهو مشروع وحدة اتحادية بين سوريا ومصر ـ وإنما أمام ضغط الظروف وضغط التيارات المعاكسة للحزب، لم يستطع أن يطرحه أو يتحدث عنه أو يبحثه مع المعنيين بشؤون قيام الوحدة. فإذن، هذا الموقف هو موقف ضعف. وهكذا، بدأت الوَحدة وانطلقت على أسس غير صلبة، بل وضعيفة لجهة حزب البعث في سوريا. (والواقع، هل كان بإمكان حزب البعث وقياداته في سوريا أن يقفوا غير هذا الموقف، وذلك نظراً للظروف السياسية وضغوط الجماهير الشعبية، ليس في سوريا لوحدها وإنما في الوطن العربي في جميع أنحائه؟!..).
أصلاً ومنذ البداية، كانت قد ظهرت نتائج هذه الوَحدة، بالشكل والمضمون اللذين تمَّت بهما وبسرعة، لم تتأخر طويلاً قطُّ، حتى أنها انعكست على حزب البعث والبعثيين تردِّياً واستبعاداً خلال عامها الأول أو أكثر بقليل. وهكذا، بدأ التململ، بل والصراع داخل الحكم الوَحدوي ولا سيّما في سوريا، القطر الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة. وغدا حزب البعث ومعه قادته المشاركون في السلطة، واجهة فقط لا غير ولا يؤخذ له بأيِّ رأي من آراء قادته (بل على العكس من ذلك، فقد ظهر الصراع شيئاً فشيئاً يأخذ أبعاداً أكثر حدَّة). وأحيط قادته بعزلة عامة ولا يقام لهم أيُّ اعتبار وبخاصة ميشال عفلق (ومعه أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار)، ويُنظر إليهم بكثير من الاستخفاف هذا إذا لم نقل بكثير من الحذر والشك والمراقبة الدائمة. وهذا ما حدا بميشال عفلق في أن يلعب دوراً انفرادياً في مقاومة نظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة، وخصوصاً في سوريا. وعلى هذا الأساس أيضاً، قَدِم تسلُّلاً إلى لبنان، وأعطى لهذا التسلُّل هالة من الأهمية الكبرى، يجوز أن تكون نسبتها صحيحة. وقد بقيَ مختبئاً في منزلي مدة أسبوع، لا أحد يعرف أين هو، إلى أن بدأ يظهر تدريجياً….
س: … هذا يعني، بكلام آخر، أن قضية محاولة اغتيال ميشال عفلق في سوريا، هي قضية مبالغ فيها أو أنها غير صحيحة؟
ج: … في تقديري، هكذا!!…. فأنا لا أعتقد ذلك..
س: … طيِّب، من خلال احتكاكك بالأستاذ ميشال عفلق في تلك الفترة، هل يمكنك أن تعطيَ فكرة عن جوِّه الفكري وجوِّه السياسي، عن وجهة نظره السياسية في عبد الناصر، في نظام الوَحدة وفي الأوضاع السياسية الداخلية في سوريا؟!..
ج: … ما أذكره في هذا الشأن أننا كحزبيين، كنا نُصدِّق كلَّ ما كان يُقال لنا من قادتنا الكبار. وقد حرصنا كل الحرص أن نحافظ على سلامة الأستاذ ميشال عفلق في بيروت. وسمعنا منه الرواية التي قصَّها علينا قبل تسلُّله إلى لبنان وأنه قد كان هناك نوع من الإرهاب والخطر على سلامته من قِبَل المشير عبد الحكيم عامر وأجهزة المخابرات المصرية. ومن هنا، بدأ ينشر عملية تعبئة ضد سياسة عبد الناصر في لبنان وضد هذه المخاطر التي تشكلها هذه السياسة بالنسبة إلى مستقبل الوَحدة. وعلى هذا الأساس، حضَّر لعقد المؤتمر القومي الثالث في لبنان ـ بيروت (أيار عام 1959) وهو عبارة عن مؤتمر مفتعل، أولاً فقد كان التحضير له بجهد خاص منه (من عفلق) وبتخطيط منه أيضاً، فـي الوقـت الذي لا يجوز ـ ومن الناحية الرسمية ـ أن يعقد مؤتمر قومي ويحضره أيُّ مواطن سوري، ذلك أنه لا يوجد تنظيم لحزب البعث في سوريا بعد أن حلَّ الحزب نفسه، فلا يجوز أن يحضر المؤتمر ميشال عفلق، ولكنه كان هو العضو السوري الوحيد فيه…
س: … ألَيس بصفته الأمين العام لحزب البعث؟!..
ج: … الآن نكتشف هذه الصفة!!… من الناحية الحزبية في سوريا، كان قد حُلَّ حزب البعث العربي الاشتراكي ولا وجود له رسمياً وفعلياً، وإنما بقيَ الأستاذ ميشال عفلق فارِضاً نفسه كأمين عام (دون أيِّ قرار حزبي رسمي كان قد اُتخذ في مؤتمر قومي سابق، مثلاً مباشَرة بعد قيام الوَحدة بين القطرَيْن)، بقيَ فارضاً نفسه كأمين عام، شئنا أم أبينا، كشخصية قومية: بمعنى، له هُويَّتان، هُوية سورية وهُوية قومية عربية. فاستعمل الهُوية القومية العربية لكي يحقق انعقاد هذا المؤتمر ويُقيِّم سياسة الوَحدة، سياسة الجمهورية العربية المتحدة، بعد قيامها وبعد حلّ حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، وهذا، طبعاً، كي يُثبت لقيادة الجمهورية العربية المتحدة أن تصرُّفهم (السياسي الداخلي) كان خاطئاً بالنسبة إلى رجالات البعث وقياداته في سوريا.
وأثناء المؤتمر، ظهر صراع شديد بين تيارَيْن: تيار يدعو إلى استمرارية الحزب وبسلبية ضد نظام عبد الناصر، وتيار آخر يؤيد استمرارية الحزب، وإنما بانفتاح على سياسة عبد الناصر. وكان ممثل هذا التيار قيادة الفرع الأردني وعبد الله الريماوي تحديداً. وكان فرع حزب البعث في الأردن يقيم وجهة نظره على الأخطاء الحزبية التنظيمية داخل الحزب وعلى الممارسات الحزبية الخاطئة وعلى ضعف القيادة القومية. وهناك أشياء أخرى كثيرة والقسم الكبير من هذه الانتقادات كانت بمجملها صحيحة.
ونحن، كبعثيين لبنانيين، ما كان يهمنا بالدرجة الأولى، نحن الموجودين في المؤتمر، هو أن يبقى حزب البعث محافظاً على وَحدته التنظيمية. وأنا كنت قد استقبلـت عبد الله الريماوي وبهجت أبو غربية كضيفَيْن عندي في منزلي. وكنا نحن البعثيين اللبنانيين حريصين أن لا يحصل هذا التصدُّع وحاولنا جهدنا وبذلنا جميع إمكاناتنا كقادة حزب البعث في لبنان، أنا وجبران مجدلاني وخالد بشرطي وغيرنا، وعملنا كل ما هو مستطاع كي نمنع هذا التصدُّع الحاصل داخل الحزب القومي، وكنا نسعى إلى إقناع الرفاق الأردنيين وإفهامهم على أنه مثل ما لديهم هم نقمة واعتراضات على الأخطاء الحزبية التنظيمية والانحرافات في الداخل ونقد السياسة القومية، كذلك نحن عندنا هذه الانتقادات تجاه القيادة القومية، ولكننا كنا نحن حريصين على وَحدة الحزب، فلنتوجَّه نحو الإصلاح من الداخل. فلم يُستجب لرأينا، بعد أن حاولنا جهدنا لرأب الصَّدع، ولكن دون نتيجة، ممّا أدّى في النهاية إلى انشقاق فرع حزب البعث الأردني عن الحزب.
وكما هو معروف، فقد حاول رفاقنا الأردنيين أن يُنشئوا تنظيماً منفصلاً تحت اسم: حزب البعث الثوري… وبالفعل، فإن رفاقنا الأردنيين رفاق مناضلون محترمون، كانوا قد خاضوا تجربة حزبية نضالية مهمة، إنما يبدو أنهم تسرَّعوا في اتخاذ هذا الموقف الانشقاقي. إنهم أضعفوا حزب البعث العربي الاشتراكي وأضعفوا أيضاً أنفسهم، بدليل أنهم بعد انفصالهم عن الحزب قد ضاعوا (وبعد مدة زمنية زال أثرهم السياسي الجماهيري، الناشط والفاعل).
وفي رأيي أنا، فإن ضعف القيادة، القيادة القومية التقليدية في الحزب (والتي تُسمَّى القيادة التاريخية)، وأسلوب عملها السياسي، الداخلي والقومي، البطيىء والمتردِّد ـ كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً ـ أمام ديناميكية الرجل التاريخي القائد جمال عبد الناصر، كان قد سُحب "البساط" الشعبي من تحت أقدام كل الأحزاب في الوطن العربي، ومن جملتها حزب البعث. إن هذا الواقع لا يمكن أن يكون واقعاً هيِّناً أو سهلاً، ليس هيِّناً أبداً هذا الواقع أيضاً أمام الظروف القاسية لفرع الحزب الأردني، هذه الظروف التي يعيشها في مواجهة حكم ملكي إرهابي والكيان الإسرائيلي، كل هذه العوامل كانت قد جعلت القيادة القطرية لحزب البعث في الأردن أن تضعف أمامها ولا تقوى حزبياً على مواجهتها. وعندما عجز عن جرِّ حزب البعث ككل إلى سياسته، فضَّل حزب البعث الأردني أن ينفرد في عمله السياسي القومي لوحده (بدعم النظام الناصري له مادياً وسياسياً وإعلامياً).
فضلاً عن ذلك أن فرع حزب البعث الأردني، في الخمسينات وقبل انعقاد المؤتمر القومي الثالث عام 1959، عاش فترة في صراع داخلي مع القيادة التقليدية (ومع الأمين العام للحزب الأستاذ ميشال عفلق على وجه الخصوص)، وكنا نحضر مؤتمرات في سوريا على صعيد قيادة قومية، نلمس أثناءها اختلافاً في الأسلوب ووجهات النظر والمواقف السياسية وبخاصة الداخلية والتي يصل فيها الصراع إلى أن يتخذ شكل الصراع الشخصي بين عبد الله الريماوي وميشال عفلق، إلى درجة حادَّة في كثير من الأحيان، لقد كان صراعاً شخصياً رهيباً. ذلك أن عبد الله الرماوي، رحمه الله، كان يتمتَّع بديناميكية وحيوية سياسية جبَّارة وعقل نَشِيط متحرك يعمل ولا يهدأ، وإرادة قوية صلبة ومعه أيضاً رفاق تاريخيون أبطال في النضال القومي أمثال بهجت أبو غربية وغيره وغيره.
وبدأ حزب البعث في الأردن نشاطه في أن يلعب دوراً رائداً ومؤثراً في السياسة الأردنية، مثلاً في طرد غلوب باشا من قيادة الجيش الأردني، فقد كان لهم في ذلك دور بارز وقوي لا يجوز أن يُغفل. وكان دورهم القيادي القومي والسياسي في الأردن أصعَب بكثير من الدور القيادي لحزب البعث في سوريا. وكان لهم الحق، كل الحق الديمقراطي، في أن ينتقدوا ويبدِّلوا ويغيِّروا وأن يكون لهم وجهة نظر في قيادة الحزب على الصعيد العربي (لا أن يكونوا منقادين، لا رأي لهم ولا وزن في قيادة الحزب، كباقي فروع حزب البعث في الوطن العربي، تأتيهم الأوامر والقرارات وما عليهم إلا تنفيذها). إنما أسلوب ميشال عفلق، كأمين عام للحزب، وعقليته في تلك الفترة، وبنظري أنا، قرَّبت نهاية حزب البعث وفاقمتها رويداً رويداً، وهي التي جعلته أن يقبل ويرضى بالشكل الذي تمَّت فيه عملية الوَحدة بين سوريا ومصر عام 1958. وذلك حتى ينتهي من هذا الواقع المتردي تنظيمياً الذي يعيش فيه طوال تلك الفترة.
فقد كان يشعر ميشال عفلق في أعماقه أن حزب البعث وتطوره الحزبي الداخلي، إما أن يوصله إلى العُزْلة وإما أن يجعله رقماً ثانوياً. فلم يَعُد واقعُ تطوُّر البعث، سواءٌ في سوريا أو خارجها، يتحمَّل في الفترة ما قبل قيام الوحدة، هذا الأسلوب في القيادة، لا أسلوب ولا طريقة قيادة ميشال عفلق لحزب البعث، وهو أسلوب قيادي بطيىء جداً، وفي الوقت نفسه إنه أسلوب مُناور.
وأنا آسف أشدّ الأسف أن استعمل هذه التعبيرات، ولكنها حصلت. فعلى سبيل المثال، من أجل استمراريته في الأمانة العامة لحزب البعث العربي الاشتراكي وأن يبقى هو الوجه الأبرز في القيادة، كان يستعين بنا كأفراد في القيادة القومية، وكنا قد تربينا معه وبجانبه في الحزب، كان يستعين بنا كي يعبئنا ضد أكرم الحوراني، وكان يستعمل معنا نوعاً من التعبئة، فيقيم معنا ويعقد اجتماعات جانبية قبل انعقاد الاجتماع الرسمي للقيادة القومية في أكثر الأحيان، وذلك حتى يصوِّر لنا خطورة أكرم الحوراني على الحزب ويعدِّد لنا أخطاءه الواحدة بعد الأخرى، من حيث تصرُّفه أو تصريحاته أو مواقفه، وهذا ما يشكل من وُجهة نظره خطراً داهماً على حياة حزب البعث ووجوده.
وأكرم الحوراني، كما نعلم جميعاً، إنما هو دخيل على حزب البعث العربي. فهو كجسم غريب عن البعث، إلاّ أن ذلك لا يمنع أن لأكرم الحوراني كيانه وشخصيته السياسية والقيادية وله أفكاره وآراؤه. وحزب البعث كان قد استقبله كما هو. بيد أنه بنظر الحزبيين البعثيين المؤسِّسين، بقيَ ويبقى غريباً عن حزب البعث. فكان ميشال عفلق، على هذا الأساس، يعمل جاهداً وبجميع الطُّرق على تعبئتنا ضد أكرم الحوراني، نحن ومعنا البعثيون الأردنيون، لهذا كان يجتمع بنا نحن البعثيين اللبنانيين ومعنا عبد الله الريماوي. غير أننا نحن لم نكن لنستجيب كل الاستجابة لكل توجيهات ميشال عفلق وانتقاداته لأكرم الحوراني، فكنا نناقشه في عَرْضه لوجهة نظره ولا نسلِّم معه في كل ما يقوله في هذه الأشياء ضد أكرم الحوراني. لا…
س: … في الحقيقة، أنا كنت أعتبر أن هذه الآراء التي قرأتها وسمعتها في السابق، أن فيها كثيراً من المبالغة والتضخم أو حتى أشياء من التجنِّي ضد ميشال عفلق أو أنها تتضمن نوعاً من الخصومة السياسية.
ج: … هكذا كانت قد فسِّرت واُتُّهمت أنني أنا كنت منفعلاً في كتاباتي (وفي انتقاداتي لميشال عفلق). ولكن، هذا هو الواقع. هذا هو الواقع، لا يمكن أن يُنسى. هذا الواقع هو الذي وجدت نفسي فيه أنني مضطر القول فيه والكتابة عنه، بعد أن فكرت طويلاً أنه في موقف كهذا فإن مصلحةَ الأمة العليا، والقضية المقدَّسةِ، فـي نظـري، والدفاعَ عنها وخدمتهـا أهمُّ من خدمة الأشخاص. عندما نقف نحن هذا الموقف الناقد، لنا أو لغيرنا، أي أن نقوم بالنقد الذاتي، إنما هو ضروري لإغناء التجربة، ولا يمكننا أن نطمس أشياءَ حصلت ولها نتائجها الخطيرة.
هذا يعني بكلام آخر أن أمام المهتمَّين بالعمل النضالي، ليس هناك مَن يغيبُ عن ذهنه أسلوبَ ميشال عفلق. عندما تأتي عناصرُ كانت قد عايشت ميشال عفلق مع فائق الاحترام له، وانتقدت لاحقاً هذا الأسلوب، ذلك يعني أن هناك ما يبرِّر هذا الانتقاد وتقريرَ أشياء كانت قد حصلت، قد حصلت بالفعل. فلا يجوز أن يقف الواحد منها موقف المدارات (أو غضّ النَّظر والكتمان).
وأقول أكثر من ذلك إنه لمّا كان ميشال عفلق ضيفاً في منزلي، فإن زوجتي وصل لديها الاندهاش من طريقة حياته وسلوكه لدرجة "الجنون". هذا السلوك اليومي (وبخاصة لقائد سياسي حزبي)، هو شىء غير مألوف: أن يستيقظ الساعة الحادية عشرة ويبقى في الحمام ساعتَين، وحتى يصبح مهيَّئاً وجاهزاً للعمل الساعة الواحدة أو الثانية بعد الظهر. هذا هو نظامه، وهو عكس نظام البشر. فمن الممكن أن يحصل ذلك (أيام الراحة) مرة في الأسبوع أو مرة في الشهر، أو بعد أن يكون مرهقاً بسبب سهرة سياسية طويلة أو اجتماع حزبي ليلي مرهق، ولكن ليس يومياً.
هذا هو نمط حياة ميشال عفلق، النَّمط الذي يتَّصف بصفة البُّطء. هذه هي طبيعة حياته في تصرفاته وفي حركاته، والتي تتَّخذ شكل البُّطء في كل شىء. ويجب أن نلاحظ أن وراء هذا المظهر الديمقراطي الخارجي، الناعم، اللطيف، المتواضع، هناك في الأعماق شخصية فردية خطيرة، يتَّصف بها الأستاذ ميشال عفلق. شخصيته شخصية فردية، ذاتية. عندما لا يستجيب لمشاركة رفاقه ولمشاركة القيادات الجديدة النامية في الحزب ولا يتحمَّل آراءها ووجهات نظرها ولا يتحاور معها، أخذاً أو عطاءً، فهذا يدل على موقف انفرادي. وكان قد ظهر ذلك أيضاً على أبواب المؤتمر القومي السادس.
وهنا، أعطيك بعض النماذج: لقد طرحنا في هذا المؤتمر تساؤلات حول كيف حصل هذا الصراع داخل الحزب قبل قيام وَحدة عام 1958، وكان صراعاً رهيباً حتى أنه وصل إلى الخصومة الشخصية. ولقد كان تحقيق الوَحدة (بالشكل الذي تمَّت فيه)، إنما هو هروب من هذا الواقع المرير، الواقع الحزبي المتفتِّت في سوريا. وبعد المؤتمر القومي الثالث المنعقد في العام 1959 في بيروت، خرج حزب البعث الأردني ـ كما قلنا سالفاً ـ من حزب البعث العربي الاشتراكي الأم، ناقماً على سياسة قيادته وأمينه العام الأستاذ ميشال عفلق. وكان وجهة نظره أن يستمر حزب البعث بإيجابية مع نظام وشخص الرئيس عبد الناصر.
س: … هل لك أن تعطيني بعض النَّماذج، بعض الأمثلة على سلطوية الأمين العام الأستاذ ميشال عفلـق وفرديتـه، إذا ما زلت تذكر أو تتذكـر بعد الحوادث والمواقف التي تدل على ذلك؟!…
ج: … يكفي أن أشير إلى الأمثلة الكثيرة التي ذكرتُ في الكتابات العديدة المنشورة، وأهمها انفراد الأستاذ ميشال عفلـق أو بالأحـرى قيادتـه الحملة لحلِّ حزب البعث في سوريا من أجل قيام الوَحدة مع مصر، هو الذي انفـرد فيها. والمرحلـة الثانيـة هو الذي انفرد في مصارعة الرئيس جمال عبد الناصر ومحاربة نظامه في المؤتمر القومي الثالث، وكان قد تعرَّض حزب البعث للانقسام وانفصال القيادة القطرية لحزب البعث الأردني عنه. ثم، بعد ذلك، هناك موقف فردي آخر على أبواب المؤتمر القومي السادس في تشرين الأول عام 1963، حينما جاء إلى بيروت من سوريا متخفياً، مدَّعياً أنه هارب من الأخطار المحدقة به وتحيطه من قِبَل مخابرات عبد الحميد السرّاج وعبد الحكيم عامر.
ومن هنا، كانت قد بدأت القيادة القومية وأمينها العام التعبئة في لبنان ضد نظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة وضد سياسة أكرم الحوراني في الوقت نفسه. في هذه الفترة، فإن أكرم الحوراني كان واضحاً في مواقفه السياسية، على أنه ليس فقط ضد نظام الحكم لعبد الناصر، بل هو أيضاً لا يبارك استمرارية الوَحدة على هذا الشكل معه. لقد كان له موقف واضح في هذا الخصوص. أما ميشال عفلق، فقد كان ضد سياسة النظام في الجمهورية العربية المتحدة فقط، ومعه في هذا الموقف الأستاذ صلاح الدين البيطار (وعدم فرط الوَحدة وانتقاد نظام الحكم وسياسته الداخلية، ولكن من داخل الوَحدة). فلم يكن لدى ميشال عفلق لا أقول الجرأة، وإنما التمادي الصريح في معارضة نظام الوَحدة (معارضة شديدة اللَّهجة وبكثير من الحدَّة)، لدرجة أنه لا يبارك استمرارية الوَحدة القائمـة، لا. وهكذا بقيَ ميشال عفلـق يرعى حزب البعث في لبنان وقبل الانفصال، انطلاقاً من هذا المفهوم تجاه الوَحدة القائمة.
وكنا، نحن في لبنان، قد بدأنا العملَ كقيادة قومية في تلك الفترة على إعادة تنظيم حزب البعث في سوريا في ظلِّ الوَحدة، إنما بشكل سرّي بطبيعة الحال. وكنا ننتقي العناصر الحزبية البعثية الشابة الناشئة، مبتعدين عن القيادات السابقة. وأذكر أنه في القيادة القومية، كان هناك فريق anti - nassériste ضد الناصرية ـ إذا صح التبعير ـ وضد قيادة عبد الناصر، ومتجاوب مع موقف أكرم الحوراني الذي هو خارج القيادة القومية، لدرجة أن كل عنصر سوري يُستقبل داخل التنظيم السرّي، يُسأل عن ماضيه وعن سلوكه وتصرفه هو، مع عبد الناصر أو ضدَّه. فإذا كان هذا العنصر البعثي السوري ضد عبد الناصر، فإنه يُقبل في هذا التنظيم السرّي الذي تعمل على إنشائه القيادة القومية وبإشراف الأستاذ ميشال عفلق من بعيد بعيد. وكنا لمّا نقترح أسماء غير كاشفة عن وجهها ضد عبد الناصر، لا تُقبل في هذا التنظيم السرّي، ونعتبرها أنها عناصر ناصرية، فتُبعد.
لهذا كان يحصل صراع شديد في هذا الموضوع. فكنت أنا وخالد يشرطي وغالب ياغي، كنا نحن قريبين من وجهة نظر ميشال عفلق. أما وجهة نظر صلاح الديـن البيطار فكان ملخَّصها أنه لا يجوز أن تستمر هذه الحرب ضد البعثيين الوحدويين داخل الحزب وذلك لمجرد أن هذه العناصر (يقصد البعثيين الأردنيين) لها وُجهة نظر إيجابية تجاه عبد الناصر، وأن نبعدها من الحزب ونحرمها (من التعبير عن رأيها والإعلان عن موقفها). فكان يُستبعد هذا الرأي ولا يؤخذُ به ولا يُدخل معه في أي حوار أو نقـاش.
لقد استمرت هذه المرحلة طويلاً حتى حصول الانفصال في أيلول عام 1961. وبعد وقوع الانفصال فـي الشكل والظروف التي نعرفهـا، برزت الدعوة لعقد المؤتمر القومي في الشكل والظروف التي نعرفها، برزت الدعوة لعقد المؤتمر القومي الخامس (عام 1962) وذلك من أجل بحث ودراسـة تجربة الوَحدة والعمل على إعادة وَحدة اتحادية مع مصر (الناصرية ومع عبد الناصر).
هنا، وقع انقسام في وُجهات النظر داخل القيادة القومية. كما سبق وقلت، فإن القيادة القومية، كانت قد اتفقت فيما بينها على أن يُعقد مؤتمر قطري سوري، يضمُّ قيادات حزبية سابقة، تلك التي يُرضى عنها والتي استمرت في نشاطها الحزبي. إنما اختلفت القيادة القومية بالنسبة إلى القرارات التي سوف تصدر عن المؤتمر القطري السوري والتي على أساسها سوف يتمثَّل في المؤتمر القومي الذي يجري التحضير له. فريق من أعضاء القيادة القومية، وأنا كنت منهم والأستاذ صلاح الدين البيطار أيضاً ـ مع أنه لم يكن في القيادة القومية، وإن كنا على اتصال دائم معه ـ أن يحصل المؤتمر القطري السوري والتقرير الذي سوف يصدر عنه، يجب أن يشتمل على جميع وُجهات النظر للتيارات الحزبية البعثية دون استثناء، وتُشرح وُجهات النظر للتيارات هذه وتُفسَّر وتكون هي ممثَّلة لجميع التيارات الحزبية في المؤتمر القومي (الخامس المزمع عقده في سوريا).
أما الفريق المتشنِّج في القيادة القومية والذي كان يزايد في يساريته، ومنهم غسان شرارة وبعد الوهاب الشميطلي وفيصل حبيب الخيزران، فكان يرفض هذا الرأي، ويتمسَّك بموقف الأكثرية، (بمعنى أن الأكثرية في المؤتمر القطري السوري هي التي يجب أن تتمثل فقط في المؤتمر القومي العتيد). أي أن التقرير الصادر عن هذا المؤتمر القطري يحمل فقط رأي أكثرية الحضور. وأكثرية البعثيين في سوريا في تلك الظروف وفي مرحلة الانفصال، إنما هي أكثرية ضد عبد الناصر وضد نظام حكمه، فهي في هذه الحالة سوف تكون موجودة ومشاركة في المؤتمر القومي. فعلى هذا الأساس، كان قد أُلغيَ (انعقاد المؤتمر القطري في سوريا في عهد الانفصال وقبل انعقاد المؤتمر القومي الخامس).
كذلك، في هذا المؤتمر القومي الخامس، وكما تحدثنا عن المؤتمر القومي الثالث (وبعد المؤتمر القومي الرابع المنعقد أيضاً في بيروت عام 1960) فإن البعثي السوري الوحيد الذي حضره وحضَّر له (وكان مهندسه الأول والأخير)، هو الأستاذ ميشال عفلق، وهذا مستغرب. ففي هذا المؤتمر القومي سوف يُبحث موضوع الوَحدة بين القطرَيْن وإعادة الوَحدة الاتحادية بينهما، وداخل سوريا لا يوجد أيُّ بعثي سوري سوى ميشال عفلق. فهذا الوضع وبالشكل الذي تمَّ فيه، هو أيضاً مستغرب.
س: … في هذا السياق العام، هل كان هناك اتصال بصورة أو بأخرى، بالاتجاهات والقيادات البعثية المعارضة للتيارات الناصرية، من خارج المؤتمر، بذهني مثلاً مع أكرم الحوراني أو مع صلاح الدين البيطار، أو كما نقول أيضاً، مع القيادات البعثية السورية من الصف الثاني؟!…
ج: … طبعاً، كل عضو من أعضاء القيادة القومية كان يتصل بفريق من الأفرقاء. بمعنى آخر، فإن القيادات البعثية السابقة، وإن لم تحضر المؤتمر شخصياً، وإنما كانت وُجهة نظرها موجودة ومطروحة ومناقشة في المناقشات العامة. وكما سبق وقلت، حتى أثناء التحضير لهذا المؤتمر القومي الخامس والعمل على انعقاده، فقد كان ميشال عفلق يمثل أيضاً رأياً فردياً ونهجاً سلطوياً. لقد كان حريصاً دائماً أن تأتيَ الأعمال أو القرارات الحزبية على مقاسه وتفصيله وأن تناسب حجمه (أو بالأحرى فكره السياسي والقومي والمبدئي). كان يخاف ـ وبحسب تقديري الشخصي ـ أو يتخوَّف أن تبرز قيادات بعثية تاريخية بجانبه تتجاوزه وتقضي عليه. على هذا الأساس، حصل فيما بعد الافتراق بينه وبين صديقه صلاح الدين البيطار وذلك بعد المؤتمر القومي السادس.
س: … قبل المؤتمر القومي السادس وقبل انعقاده بفترة زمنية، كيف كانت العلاقة الحزبية والسياسية والشخصية بين ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، وأنت بصفتك الشخصية والحزبية كنت على علاقة وثيقة بل وعلى معرفة بالخصوصيات وعلى صداقة حميمة مع الإثنين، فهل يمكن توضيح ذلك؟!..
ج: … نعم، هذا صحيح، وممّا أعرفه، فقد ابتدأت العلاقة بينهما إيجابية إلى حدٍّ بعيد، وهما قائدان حزبيان الأكثر بروزاً. وقد استمرت هذه العلاقة (والصداقة الشخصية والحزبية) حتى بعد حركة 8 آذار 1963. فقد كانا متعاونَيْن……..
س: … (مقاطعاً)، توقيع الأستاذ صلاح الدين البيطار على "وثيقة" الانفصال وردود الفعل التي حصلت على أثره، ومن ثمَّ تراجعه عن هذا التوقيع إعلامياً، كيف كانت وجهة نظر الأستاذ ميشال عفلق أو موقفه في هذه القضية؟!..
ج: … كان موقف الأستاذ عفلق ناقداً لهذا التوقيع من جهة صلاح الدين البيطار…….
س: … هل، برأيك، كانت مواقف الأستاذ صلاح الدين البيطار وتصرفاته طيلة تطوُّر الأوضاع والأحداث أثناء الوَحدة وبعد وقوع الانفصال، بحت فردية؟!… أَلَمْ يكن هناك تواصل مستمر ومشاورات وتبادل وجهات النظر مع صديقه الأستاذ عفلق في القيادة القومية؟…
ج: … أعتقد أنه لم تُتح له الفرصة والوقت لكي يتواصل مع الأستاذ ميشال عفلق ويستشيره… وهذه من جملة الأخطاء التي كانت تقع فيها قيادات الحزب، في الماضي أو في الحاضر، وكما انفرد ميشال عفلق في إرسال رسالته الشهيرة إلى حسني الزعيم وهذا خطأ ارتكبه، دون أن يستشير أحداً من رفاقه، كذلك صلاح الدين البيطار، فإن الظروف السائدة آنذاك قادته إلى أن يرتكب هذا الخطأ الفادح أيضاً. (إذن، في المحصلة النهائية، أخطاء تلو أخطاء يرتكبها القادة، ويدفع ثمنها الفادح حزب البعث والبعثيون في كل مكان!!…).
ولكن الفرق بين الإثنين أن صلاح الدين البيطار لا يكرِّر أخطاء ميشال عفلق ويعيدها على مسمع الجميع، في حين أن ميشال عفلق يحفظها ويحتفظ بأخطاء صلاح الدين البيطار ويحكي عنها ويتحدث بها وعند اللُّزوم يثيرها جميعاً….
وفي كل الأحوال، على أبواب حركة 8 آذار 1963، كنت نائماً على ظهري في منزلي بسبب "ديسك" ألَمَّ بي، وقد مرّ الأستاذ صلاح الدين البيطار لزيارتي، وذلك بعد أن عاد من مؤتمر عالمي عُقد في "دار السلام". فكان متعاوناً مع ميشال عفلق ووُجهة نظرهما متوافقة بل وعلى توافق تام. في هذه الأثناء، كان قد قامت حركة 14 رمضان (8 شباط) 1963 في العراق، وكان رأيهما أن الحدث المقبل في سوريا، يجب أن يؤجَّل إلى أبعـد وقت ممكن، وذلك حتـى يتمكن حكم البعث في العراق أن يتثبَّت ويقوى ويرسِّخ أقدامه ويُبنى على أسس صلبة. لأن تبديل الحكم وإسقاط نظام الانفصال في سوريا هو في "اليد"، (بمعنى أنه مضمون لصالح حزب البعث)، فقد وصل في تلك الفترة بالفعل إلى درجة الاهتراء والفلتان، والناس تتحدث يومياً عـن التكتـلات والصراعات الداخليـة داخل الجيش. وكان من المنتظر في كل يوم يمرّ، أن يحصل شىء ما ويقع تحرك عسكري من هنا أو من هناك، من هذه الجهة أو تلك.
في هذه الأجواء السياسية العامة المضطربة السائدة آنذاك، وبما أن حزب البعث العربي الاشتراكي كان قد نجح في حركته واستلامه السلطة في العراق، فإن مثيلَه (أي حزب البعث أو ما تبقّى منه) في سوريا، كان يتصور في نفسه أنه بمقدوره أن يعطِّل قيام أيّ حركة انقلاب طوال المدَّة التي يريد، بمعنى أنه يمكنه أن يمنع أو يقرِّب أيَّ حركة انقلابية. ولكن يبدو أن وجهة النظر هذه لم يؤخذ بها، فحدثت حركة 8 آذار (في الشكل وفي المضمون) دون إرادتهما (أي إرادة حزب البعث: القيادة القومية وأمينها العام ميشال عفلق)، ودون إرادة هذَيْن القياديَّيْن التاريخيَّيْن: عفلق والبيطار، أو حتى رغم إرادتهما.
وكما تعلم، ومن أجل تقديم دليل على انفرادية ميشال عفلق، فإن صلاح الدين البيطار سُمِّيَ رئيساً لأول حكومة بعد 8 آذار. ومن ثمَّ، على أبواب المؤتمر القومي السادس، كنا قد ذهبنا كوفد "مراقبة" من القيادة القومية إلى العراق ـ وكما أذكر في شهر آب عام 1963. وكانت القيادة القطرية في العراق منقسمة على نفسها أيضاً (وصراع داخلها ما كان يُسمى بين اليمين واليسار) وكان انقسامـاً بيِّنـاً وصراعاً "حدّي"، بحسب تعبير العراقيين. وكان الوفد مكوناً من الأستاذ ميشال عفلق وصلاح جديد ومحمد عمران وجبران مجدلاني وخالد يشرطي وعلي جابر. لقد تبيَّن لنا أن ميشال عفلق كان قد أعطى الضوء الأخضر للعناصر المعارضة (الضمني!!) ـ وهي في الأساس معارضة للقائدَيْن ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار ـ إنما هذه العناصر المعارضة أرادت أن تساكن (تهادن) الواحد (عفلق) منهما قبل الثاني (البيطار). وعلى رأس هذه العناصر المعارضة حمودي الشوفي، وقيادته الممالئة للعسكر من 8 آذار في دمشق أو بالأحرى ممالئة "للنجمة" العسكرية، وهي التي كانت تحكم من وراء الستار.
وكان لهذه العناصر المعارضة تخطيطٌ مؤداه أن هذَيْن "القيادَين التاريخيَّين" يجب أن يوضع لهما (الواحد بعد الآخر) نهاية. صلاح الدين البيطار، لم يماشيهم في مخططهم ـ وهذا ما اعترف لي بذلك صلاح الدين البيطار رحمه الله. وبكلام أوضح، لقد حاولوا أن يتناغموا معه (مع البيطار)، حتى يساعدهم على إزاحة ميشال عفلق. لم يوافق. بينما، في المقابل، قد تناغموا مع عفلق ضد البيطار، فقد وافقهم في مشروعهم، على أساس، ونحن في العراق، أن ينعقد المؤتمر القطري لحزب البعث في دمشق. فشُنَّت حملة مسعورة ضد صلاح الدين البيطار أثناء هذا المؤتمر. وانهالت عليه الانتقادات من كل جانب، فهشَّمته تهشيماً، من قِبَل هؤلاء الشباب الصغار (المعارضة البعثية السابقة). فجاءتنا الأخبار ونحن في طريقنا للصعود إلى الطائرة للعودة إلى سوريا، بعد الانتهاء من مَهمتنا، وهي في الواقع، مَهمة شكلية لم نعمل شيئاً، فأتتنا الأخبار بانتهاء المؤتمر القطري في سوريا وأن صلاح الدين البيطار لم يُنتخب عضواً في القيادة القطرية. وهو رئيس الوزراء لأوَّل حكومة بعد 8 آذار، وإنما كان قد انتخب على الأقل عضواً للمؤتمر القومي المزمع انعقاده لاحقاً. وقد سمعت بأذني ميشال عفلق يقول على الأثر: "ما كان بدنا ها قدّ"، أي لم يكن يريد أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الرفض والمعارضة للبيطار. فليس هكذا قد اتفقنا ـ أو شىء في هذا المعنى. هذا دليل على انفرادية ميشال عفلق (بل أكثر من ذلك، إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فهذا يدلّ على تآمره على صديقه والمؤسِّس الثاني للبعث معه. وقد يكون هذا الموقف مستغرباً من قِبَل ميشال عفلق أو مستبعداً!!).
أما البعثيون العراقيون، (يقصد حكم البعث في العراق بعد عام 1968) فقد بدوا أذكى من كل الآخرين غيرهم (يقصد الضباط البعثيين في سوريا بعد 8 آذار 1963!!) أو مثل الآخرين على أقل تقدير، بمعنى أنه عندما أصبح ميشال عفلق معهم ووحيـداً، (مع حكم البعث في العراق)، أرضوا له l'amour propre، أي حب الـذات (أو طموحه): فقد كرَّمـوه وعزَّزوه ورفَّهـوه إلى غير ما هنالك، ولكن لم يُشركوه في رسم سياسة النظام، لا الداخلية ولا الخارجية. وهذا ما كان يحصل طوال نظام حكم صدّام حسين، إذ إنه عَرف تمام المعرفة كيف يتعامل معه (أي عرف نقاط الضعف وهي كثيرة في شخصية ميشال عفلق).
على أيِّ حال، وبالعودة إلى انعقاد المؤتمر القومي السادس، فقد ظهر في المناقشات العامة وجود تيارَيْن: تيار حمّودي الشوفي في سوريا وتيار علي صالح السعدي في العراق، وهذان التياران البعثيان كانا في حالة حماس واندفاع يساري مخيف ضد كل القيادات التقليدية "التاريخية" السابقة (بمعنى آخر ضد قيادة ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني وكل مَن ينتمي إليهم أو يؤيدهم، باستثناء ربما وبشكل أخف أكرم الحوراني!!). أما ميشال عفلق، فقد كان بارعاً في توقيِّه للعواصف الهوجاء ضده (وإنما يبدو أن التكتيك المرحلي الذي اتخذته قيادة اللَّجنة العسكرية، وهي التي تمسك بزمام الأمور والحكم الجديد، كانت من جهة لا تسعى إلى أن تتخلص من جميع القيادات السابقة دفعة واحدة، ولا أن تبقى أسيرة التيار البعثي الماركسي المتطرف وبخاصة في العراق، ومن جهة أخرى فهي، أي اللَّجنة العسكرية، بحاجة أيضاً في تلك الظروف المضطربة والحرجة، وسلطة حزب البعث لم تثبِّت أقدامها بعد في سوريا، فهي بحاجة إلى "رمز" وقتذاك، وميشال عفلق هو المؤسس والأمين العام والرمز في الآن الواحد معاً. ضمن هذه الاعتبارات جميعها) استطاع ميشال عفلق أن يتوقّى مرحلياً العاصفة الهجومية ضده (وإن لم يكن يستطيع أن يحمى وأن ينقذ رفاقه معه). فانتخب أميناً عاماً لحزب البعث العربي الاشتراكي واستمر بعد انفضاض جلسات المؤتمر القومي السادس في قيادة القيادة القومية، وكانت النتيجة على حساب رأس صلاح الدين البيطار الذي فشل أيضاً في الانتخاب لعضوية القيادة القومية.
وأنا أذكر في هذا النطاق في أول جلسة لانعقاد المؤتمر القومي السادس، عندما تهيَّب كل واحد من أعضاء القيادة القومية أن يدير الجلسة، ذلك أنه من المفروض وبحسب النظام الداخلي أن يدير الجلسة الأولى للمؤتمر القيادة القومية، فهي التي تُسمِّى أعضاء المؤتمر وتثبِّت عضويتهم وتشرف على انتخاب رئيس للمؤتمر القومي. الغريب في الأمر، أن جميع أعضاء القيادة القومية كانوا قد تهيَّبوا لإدارة هذه الجلسة الأولى للمؤتمر. السبب في ذلك أنهم جميعاً أو أغلبيتهم كان يتملكه الخوف من هذَيْن التيارَيْن اليساريَّيْن: إما أن يماشيهم في مخططاتهم، وإما أن يعمل بحسب قناعاته الحزبية. وإذا اشتغل على أساس قناعاته الحزبية، فسوف تحدث نقمة وفوضى عامة في المؤتمر. هذا يعني، بكلام آخر، نوعاً من الضعف، وأقل ما يقوله الواحد منا أن هذا الموقف إنما هو نوع من الضعف. لا أريد أن أقول أكثر من ذلك. مع أن هناك أعضاء في القيادة القومية، قبلي أنا، وهم أحقُّ مني في إدارة الجلسة، إذ إنهم كانوا متفرِّغين حزبياً ـ وهذه ليست حالتي ـ هم متفرغون للعمل الحزبي في القيادة القومية، وهم محترفون حزبياً وسياسياً. في حين أنني أنا لست متفرغاً للعمل الحزبي في القيادة القومية، وإنما كوني كنت أعتبر نفسي وحياتي بكليَّتها من أجل الحزب فقط لا غير. فلم يكن لديَّ أيُّ هدف وصولي، انتهازي. وبالفعل، فقد قبلت أن أقود الجلسة الأولى من المؤتمر. ووقعتُ نتيجة ذلك في صراع، في ما يتعلق بتسمية صلاح الدين البيطار عضواً في المؤتمر. لقد وصل الصراع إلى درجة أن هذَيْن التيارَيْن اليساريَّيْن بقيادة حمودي الشوفي وعلي صالح السعدي أرادا أن يمنعا صلاح الدين البيطار ويرفضاه أن يكون عضواً مشاركاً في هذا المؤتمر القومي، في الوقت الذي كان فيه نسبة كبيرة جداً من أعضاء مشاركين في الحضور هم عبارة عن طلاب وأساتذة صغار السن وأفراد عاديين حديثي العهد في حزب البعث. وهذا الرجل، صلاح الدين البيطار، أحد مؤسسي الحزب ووزير الخارجية السورية أثناء قيام الوَحدة السورية المصرية، وصاحب تجربة طويلة عريضة، حزبية وسياسية، وصاحب التجربة الأولى بالنسبة إلى القادة الحزبيين، وُجد تيار داخل المؤتمر (وهو مؤتمر بعثي) يمانع في أن يكون البيطار عضواً مشاركاً فيه. أنا كنت قد انبريت لهذا التيار المعارض ووقفت في وجهه.
ما هي وجهة نظر هذا التيار المعارض لصلاح الدين البيطار؟… تتلخص في أنه ـ ولكن في بداية الأمر كانوا قد أقروا مادة مفادها أن رئيس الدولة ورئيس الحكومة هما أعضاء حكماً في المؤتمر ـ أبو عبدو، (أمين الحافظ، رئيس الدولة) تمَّت الموافقة على عضويته. صلاح الدين البيطار، صحيح أنه رئيس الحكومة، ولكن كان قد قدَّم استقالته، بيد أنها لم تُقبل بعدُ. فالمعارضون قد تسلَّحوا بهذه الوضعية أنه مستقيل من رئاسة الحكومة قبل انعقاد المؤتمر السادس. (يبدو أنه كان قد قدَّم استقالته من رئاسة الحكومة بعد سقوطه في انتخابات العضوية للقيادية القطرية في سوريا).
أنا كنت قد وقفت موقفاً ضد هذا التوجُّه وانبريت لهذا التيار الرافض وعارضته كرئيس للجلسة واعتبرت هذا الادعاء الرافض لعضوية الأستاذ البيطار فيه تجنٍ وظلم، وطلبت التوقف عن المناقشة والاستراحة بعض الوقت. ولكن المعارضين اليساريّين، عندما سمعوا أنه قدَّم استقالته ولم تُقبل بعدُ، انبرى جماعة منهم وعلى رأسهم خالد الحكيم ـ سامحه الله ـ الذي قال: إننا نذهب الآن لإذاعة هذه الاستقالة وإعلانها، بعد قبولها. هكذا وبشكل طفولي، بدا لنا هذا التصرف. طبعاً، في نهاية المطاف، كان قد رُفض هذا الكلام ومعه الموقف الرافض، فقبلت عضوية صلاح الدين البيطار أخيراً في المؤتمر. من هذه الزاوية، قبلنا بأيِّ عضو من القيادة القومية