وجـهــة نـظــــر في تنظيم الواجهة البحرية لمدينة صيدا
وجـهــة نـظــــر
في تنظيم الواجهة البحرية لمدينة صيدا
مساء السبت في 8 آذار 1997
* * *
كلمـة التـقـديم :
د. مصطفى دندشلي
في مثل هذا اليوم من العام 1975 ، قضى شهيدُنا الكبير المناضل الوطـنيّ معروف سعد، بعد أن سقط ، في ساحة جمال عبد الناصر ، في قلب صيدا ، إثر إصابة بليغة قاتلة ، وهو على رأس تظاهرة للصيادين ، وبجانبه نائب صيدا آنذاك الدكتور نزيه البزري ...
لقد قضى شهيداً وووريَ الثّرى في الثامن من آذار ، في مأتم حاشد كبير ، لم تعْرفه مدينة صيدا من قبل ، وقلّ نظيرُه في لبنان ، لرجل وطنيّ ومناضل كبير كمعروف سعد ...
... ولقد شاءت الصدفة ، محض صدفة ، أن نفتتح في هذه الأمسية بالذات ، أولى نُدواتنا الدراسيّة لمعالجة قضايا صيدا ومشاريعها العمرانيّة ، وطرحها للنقاش والحوار ، انطلاقاً أيضاً من موقف وطنيّ وديمقراطيّ ، يليق بتاريخ صيدا النضاليّ ويكون تعبيراً عنه ...
ولربما هذه الصدفة بين التاريخيْن خيرٌ من ألف ميعاد . لذلك ، ووفاءً للذكرى ، فإنّني أفتتح هذه الجلسة الأولى من سلسلة ندواتنا بالوقوف دقيقة صمت على روح شهيدنا الكبير معروف سعد ، تحيةً وتكريماً وإجلالاً ...
* * *
أيّها الحفل الكريم ، أيّها الأصدقاء الأعزاء ...
ربما نكون قد تأخّرنا كثيراً ، وكثيراً جداً ، في طرحِ مشاريعَ صيدا العمرانيّة ومناقشتِها والحوارِ حولها ، وذلك لأسبابٍ عديدة خارجة عن إرادتنا ... ولكن ، أن تأتيَ هذه السلسلة من النُّدوات العلمية والدراسيّة متأخّرةً، خيرٌ من أن لا ترى النور بتاتاً ...(1)
على أيّ حال ، وقبل أن أطرحَ تساؤلاتِ هذا المؤتمر العام ، التساؤلاتِ الملحّة والمقلقة ، وأطرحَ أهدافَهُ والمنهجيّةَ التي اُعتمدتْ من أجل تحقيقه ، اسمحوا لي بدايةً أن أقدّم مفهومَنا للثقافة ولفهمِنا لدور المثقف في كلّ الظروف ، والظروفِ الراهنة التي يمرّ بها بلدنا .
الثقافةُ ، في مفهومِنا السريعِ والمختصرِ ، هي حركةُ الفكرِ التي تنطلقُ من الواقعِ وتصدرُ عنه ، الواقعِ الاجتماعيّ والاقتصاديّ ، وتعود إليه وتتفاعلُ معه ، وتتأثرُ به وتؤثرُ فيه ، من أجل فهمِه فهماً حقيقياً ، ووعيه وعياً صحيحاً ، وتغييره دائماً نحو الأفضل .
هذا هو دورُ الثقافةِ في مفهومِنا ، باختصارٍ كلّي . وهو بالتالي دورُ المثقّف في الوقت ذاته. ذلك أنّ دورَ المثقّفِ ، في الحقيقة والواقع ، المثقّفِ الملتزمِ ، الوطنيّ ، الديمقراطيّ ، الحقيقيّ ، هو أن يكون أداةَ هذا التغيير الاجتماعيّ والتاريخيّ ، أقلّه على الصعيد الفكريّ والتصوّر العقليّ ، والبحث النظريّ والطموح المستقبليّ .
إنّ دورَ المثقّفِ ، فيما نرى ، هو أن يَعيَ ظروفَ المجتمعِ في حركته التاريخية من الماضي إلى المستقبل ، انطلاقاً من لحظة الحاضر . بمعنى أن ينطلقَ من الواقع الذي يعيش فيه ، وهو جزء منه ، بكلّ تعقيداتِ هذا الواقع وقضاياه المتنوعة . وأن يُقدّم المثقّفُ بالتالي وعياً متكاملاً للمرحلة التاريخية التي يمرّ بها . ومن ثَمّ أن يعمّم هذا الوعي بصورة تكاملية ورؤية مستقبلية . فهو، بهذا المفهوم ، عاملٌ أساس من عوامل التغيير ، وعنصرٌ قائدٌ لا غنى عنه في عملية التطوير الاجتماعيّ والتقدّم الحضاريّ .
فالمثقّف ، بهذا المعنى ، شاهدُ عصرِه ، شاهدُ حقّ وصدقٍ ، لا شاهدَ زورٍ وبهتانٍ . فهو ضميرُ الشعبِ في أعماقِه وروحِه ، وفي طموحاتِه وآمالِه ، وهو الناطقُ الحقيقيّ باسمه في مراحله التاريخيّة والاجتماعيّة .
ضمن هذه الرؤية الشموليّة والواقعيّة لدور المثقّف ، كان مركزنا منذ بدايات التأسيس الأولى ، قد وَضعَ له جملةً من الأهداف ، النظريةِ والممارسةِ العملية ، يأتي في مقدمتها : محاولةُ معرفةِ الواقع، معرفةً علميّة وموضوعيّة، ووعيه بالتالي من خلال الممارسة ، وعياً هادفاً من أجل المساهمة ، المساهمة الحقيقيّة ، في عملية التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والتاريخيّ للمجتمع . فعملية التغيير ليست بالأمر السهل ، بل تحتاج إلى جهود متضافرة وإمكانات ماديّة وفكريّة وعلميّة وإنسانيّة كبرى ... وهي تحتاج إلى ذلك كلّه ، بل وفوق ذلك كلّه ، إلى مرحلة زمنيّة قد تطول ، وإلى جهد مستمر ودؤوب ... ذلك أنّنا ، كما نقول دائماً ولا نزال ، لا يمكنُ تغييرُ نحو الأفضل ، ما لا نعرفُه وما نجهلُه . والإنسانُ عدوّ ما يجهل . فالمعرفةُ الواقعيّةِ ، الحقيقيةِ ، إنما هي بدايةُ البدايات الأوليّة وشرطٌ أساس لعملية التغيير الاجتماعيّ ، التغيير الحقيقيّ ، بوعيٍ وإدراكٍ تكامليّ ولمصلحة الإنسان : كلُّ إنسانٍ وكلُّ الإنسانِ ... فالمعرفة بهذا المعنى هي قوة حقيقيّة بذاتها .
لذلك ، ومن أجل تحقيق هذا الهدف ، كانت بداياتُ التأسيس الأولى لمركزنا الثقافيّ عام 1973 ـ 1974 تحت اسم " لجنة الدراسات الإنمائيّة ". وكان أوّلُ عملٍ قامت به على هذا الصعيد هو طرحُ موضوع ِ " مشروع مرفأ صيدا ". لماذا كان هذا الموضوعُ بالذات أولى نشاطاتنا الثقافيّة آنذاك ؟!... ذلك أنّنا كنّا نسمع دائماً ومنذ زمن بعيد ، على لسان كثيرٍ من رجالِ الاقتصاد والأعمال ومختلف فئات الشعب وقطاعاته الاجتماعيّة والسياسيّة عموماً ، وبإلحاحٍ كبيرٍ ومتواصل ، عن أهميّة إنشاء هذا المرفأ الحيويّ والضروريّ لصيدا وللمنطقة بمجملها وللداخل العربيّ بصورة عامة ، وذلك على الصّعيد الاقتصاديّ والتجاريّ والصناعيّ والاجتماعيّ .
غير أنّ الحديثَ كان يجري عموماً والإلحاحَ كان يُطلق على أهميّة المشروع ، دون أن يكون هناك اعتمادُ أيِّ دراساتٍ أو معلوماتٍ عن هذا المشروع . فكان ثمة هوّةٌ ، إذن ، بين الرغبة والواقع ، بين الطموحِ وطريقة التنفيذ وأداته . فكانت آراءٌ تُطلق من هنا وهناك وفي مختلف المراحل وعلى جميع المستويات ، تُعبّر أكثر ما تُعبّر عن رغبات طيّبة ونوايا وتطلعات حسنة ، دون أن تعتمد على دراساتٍ أو معلوماتٍ علميّةٍ ، نظرية أو ميدانية ، أو إحصائياتٍ واقعيّة وكميّة ، تقنيّة وفنيّة للمشروع .
من هنا ، كانت وُجهة نظرنا الأولى ، وانطلاقاً من تصوّرنا المنهجيّ ، أنّه كيف يمكن أن نُلحَّ إلحاحاً متواصلاً على أهميةِ مشروعٍ على هذا المستوى ، دون أن يكون لدينا مسبقاً معرفةٌ علميةٌ به . فطلبنا آنذاك من صديقنا المهندس منح البزري ، الاختصاصيّ في الموضوع ، أن يقدّم لنا دراسةً متكاملةً ، إن أمكن ، وبطريقة تطوعيّة ، حول هذا المشروع .
وبالفعل وبعد ثلاثة أو أربعة شهور ، عُقدت الندوة الأولى حول مشروع المرفأ في دوحة المقاصد في العاشر ( 10 ) من شهر أيار 1974 . فكانت دهشتُنا كبيرةٌ ، إذ أنها اعتبرت ، آنذاك ، من قِبَل الجميع ، وفي مقدمتهم الاقتصاديون والتجار والمؤسّسات من بنوك وشركات ورجال الأعمال والمهتمون بهذا الموضوع عموماً ، اعتبرت هذه الدراسة ، كمرجعٍ أساسٍ ووحيدٍ للمشروع . فعممناها ، كما يذكر الجميع ، على نطاقٍ واسعٍ ، على أصحاب الشأن والاهتمام . فكانت في الحقيقة محاولةً أولى ومناسَبَةً لزيادة الاهتمام العلميّ بمشروع المرفأ . فوُجّهت ملاحظاتٌ انتقاديّة أساسيّة على هذا المشروع الأوّليّ . فبعد أن كان ملحوظاً إقامتُه في الجهة الشمالية لمدينة صيدا ، تغيّر الاتجاه وانتقل مشروعُ إنشائِه في الجهة الجنوبيّة من المدينة ، لاعتباراتٍ أساسيّة أهمها جغرافيّة .
* * *
ومهما يكن ، فبعد توقف قسريّ خلال حرب السنتين 75 ـ 76 ، عاودنا مرحلة التأسيس الثانية طوال عام 1977 ... فإذا اعتبرنا مرحلة التأسيس الأولى ، يكون مضى على تأسيس مركزنا نحو أربع وعشرين سنة . أما إذا أخذنا في الاعتبار الانطلاقة الثانية بعد حرب السنتين ، يكون عمر مركزِنا حتى الآن عشرين سنة كاملة . وهكذا ، وانسجاماً مع مفهومنا للثقافة وتوجّهِنا من خلال الممارسة للتفاعل مع الواقع وقضايا المجتمع ، تابع مركزنا عَبْر نشاطاته الثقافية المتنوعة ، اهتماماتِه الاجتماعيّة والاقتصاديّة والعمرانيّة ، فأتت أبحاثُه ودراساتُه ومؤتمراتُه ومنشوراتُه حول هذه المواضيع كافة كما يلي :
1ـ التعليم والتفاوت الاجتماعي في مدينة صيدا ، عام 1981
2ـ وثائق الاجتياح الإسرائيلي ، صيف 1982 : مقابلات وصور
3ـ مشروع مرفأ صيدا في تموز 1985
4ـ تطوّر صيدا العمراني في آب 1985
5ـ أحداث صيدا 75 في أيلول 1985
6ـ نحن والمحافظة على البيئة في آذار 1987
7ـ اقتصاديات صيدا في محيطها الريفي من آذار إلى حزيران 1988
* * *
وإذا أردنا أن نشير إشارة سريعة إلى تطوّر طرح مشروع مرفأ صيدا ، والاختلافات في وُجهات النّظر التي كانت ترافقه من حيث الشكل والمضمون والحجم والاتساع ، فإنّنا نلاحظ أنّ المشروعَ المطروحَ في السابق على بساط البحث ، إنما هو إنشاء مرفأ تجاريّ عاديّ . إلاّ أنّنا نرى في السنوات الأخيرة ، قد طُرح مشروعُ المرفأ بصيغة جديدة وبإلحاحٍ كبيرٍ وبسرعة فائقة ، وإنشاءُ مرفأ متخصصٍ كبير الحجم ، تقوم به وتنفّذه شركة عقاريّة ، مضافاً إليه ومرافقاً لـه تنفيذ مشروع الأوتوستراد الجنوبيّ والبولفار البحريّ وواجهة مدينة صيدا الأثريّة لجهة البحر .
فكانت مبادرةُ جمعية خريجي المقاصد في صيدا بدعوة النقيب المهندس بهاء الدين البساط ـ وهو المتابع عن قرب مع مجموعة كبيرة من مهندسي صيدا ، للحيثيات الدقيقة لهذا المشروع وتطوّره ـ لإلقاء محاضرة في السادس عشر ( 16 ) من كانون الأول 1995 ، وطرحِ أو إعادةِ طرحِ هذه المشاريع في شتّى أبعادها ، ولأول مرة علانية ، على الرأي العام الصيداويّ والجنوبيّ واللبنانيّ بصورة عامة. فانتقلَ الحوارُ وتحوّلَ النقاشُ وإثارةُ هذه المشاريع من حلقات صغيرة ضيّقة، إلى نطاقٍ أعمّ وأوسع ، شاركت فيه مختلف قطاعات الرأي العام من مهندسين وعلماء آثار واقتصاد واجتماع وبيئة . ذلك أنّ هذه المشاريع لا تهمّ فئةً معينةً محدودةً من المجتمع ، مهما كانت ، وإنّما لها مصلحة فيها ، في بحثها والاهتمام بها وإعطاء الرأي حولها ، مختلفُ فئاتِ الشعبِ وهيئاتِه الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والرأي العام عموماً .
* * *
وهنا ، اسمحوا لي ، أيّها السيدات والسادة ، أن أبديَ في هذه العُجالة ، ملاحظةً سريعةً وهي أنّ قطاعاتٍ واسعة من المتعلمين عندنا والرأي العام على وجه العموم، قد ازدادوا وعياً وإدراكاً لأهميّة التراث الحضاريّ والمعماريّ وحمايته ، والمحافظةِ على البيئة الطبيعيّة ، وإيلاءِ الجانب الاقتصاديّ والاجتماعيّ والإنسانيّ اهتماماً كبيراً . فأخذتْ في السنوات الأخيرة ، مشاريعُ تطوير الشاطئ اللبنانيّ وتنفيذُ الأوتوسترادات والمرافئ ، تُناقشُ أكثر فأكثر إعلامياً من قِبَل الرأي العام اللبنانيّ ، والصحافة اللبنانيّة تحديداً ، ويُثار الاهتمام حولها، ليس فقط من الناحية الماديّة أو من ناحية التطوّر الاقتصاديّ أو الصناعيّ وحسب ، وإنّما أخذ الاهتمام يزدادُ ويتّسع من ناحية انعكاساتِ هذه المشاريع وتأثيراتها في الوسط البيئيّ والتراثيّ والحضاريّ والاجتماعيّ .
وأسمح لنفسي هنا ، بأن أشيرَ أيضاً إلى حدثٍ مهمّ بالنسبة لنا ، نحن في مدينة صيدا ، لأدلّل من خلاله على مدى تطوّر الوعي عندنا بالتراث الحضاريّ والمعماريّ لمدينتنا ، دون أن يكون في ذهني أيُّ خلفيّةٍ ، ودون أن يُفهمَ من ذلك تلميحاً لأيّ كان : ذلك أنّه على أثر زلزال عام 1956 ، كانت قد اتخذتْ مصلحةُ التعمير في صيدا قراراً بوضع إشارات الاستملاك على بعض أحياء مدينة صيدا القديمة ( حيّ الكنان وحارة عمر الجلالي وحيّ رجال الأربعين وغيرها ) ، وإعادة بنائها بطريقة حديثة لسكانها الأصليّين ... وقد بوشر فعلاً في هذا العمل في حيّ رجال الأربعين ، وتمّ التنفيذُ في أوائل الستينات وبُنيت مساكنُ للصيادين حديثة نسبياً ، على أنقاض بعض الحارات القديمة ، ذات الطابع المعماريّ الأثريّ الفريد . وإذا كان قد توقف تنفيذُ وضعِ اليدّ على الاستملاكات الأخرى، فكان ذلك ، لحسن الحظ ، لعدم توافر المال في خزينة الدولة . فقد كانت كارثةً تراثيّةً وحضاريّةً ، فيما لو تمّت عملية الاستملاك ونفّذت هذه المشاريع .
كما أنّه ، على أثر الاجتياح الإسرائيليّ عام 1982 ، كان قد أزيلَ من واجهة صيدا البحريّة ، بالقرب من الميناء ، وبمحاذاة خان الفرنج ، بعضُ المعالم الأثرية والمعمارية المهمّة ، أبرزها إزالة " حمّام المير " التاريخيّ في صيدا من الوجود .
فإذا كنت أشير إلى ذلك دون الدخول في التفاصيل ، فإنما لأبرزَ مدى تطوّر الوعي لدى الرأي العام عندنا ، بقضايا التّراث والثّروة المعماريّة والحضاريّة التي تتمتّع بها مدينتنا العريقة . لا شكّ في أنّ تطوّر الوعي بهذه القضايا ، إنّما تحقّق ويزدادُ الآن انتشاراً واتساعاً ، بفضل ما تقوم به حركات البيئة والتّراث من نشاط إعلاميّ عالميّ ، وما تقوم به ، كذلك وفي الوقت نفسه ، منظمة الأونيسكو العالميّة . فنحن لا نعيشُ ولا يمكننا أن نعيشَ في جزيرة وبعزلة عمّا يجري في العالم .
لذلك ، فإنّنا نرى بأنّ الرأي العام عندنا ، يزدادُ أكثر فأكثر إدراكاً لسلبيات تلك المشاريع وخطورة التطوّر العمرانيّ العشوائيّ على شواطئنا ، والذي يتمّ في الغالب الأعمّ ، دون دراسات موضوعيّة هادئة ، وعلى حساب تراثنا المعماريّ وثرواتنا الأثريّة وحماية بيئتنا الطبيعيّة .
* * *
والواقع، قد لا تكون مدينتنا ، وهي ليست بالفعل ، أجملَ المدن ، ولا أحسَنَها ، ولا أغناها. ولكنها مدينتُنا : هي خاصّتنا، مهما كانت : بسيئاتها وحسناتها ، بضعفها وإمكانياتها ، بفقرها وغناها، فهي مدينتُنا ، مدينةُ شعبنا . من هنا اهتمامُنا بها ، وحماسُنا لها ، ودفاعُنا عنها ...
وهذا العصرُ الذي نعيش فيه ، وإن كان عصراً من عصور الانحطاط والتقهقر ، إلاّ أنّه عصرُنا : فلا يجوز أبداً أن نخجل منه . فنحن من نتاجه وعلى صورته .
وكذلك جيلُنا نحن ، جيلَ الخمسينات والستينات ، الذي ابتدأناه ، وكنا نعتبرُه جيلَ الأمل ، جيلَ الطموحات الكبرى ، وانتهينا إلى أن نعيشَه جيلَ الخيبة والهزيمة ... غير أنه مهما كان ، فهو أيضاً جيلُنا بمراحله المختلفة ، بصعوده وسقوطه ، بتفاؤله وخيبة أمله . فلا يجوز التهرّب منه أو التنكرُ له أو الخجلُ من الانتساب إليه . ممنوع علينا الهروب ، أو التهرّب ، أو المراوغة ، أو عدم اتخاذ الموقف الجريء المناسب في الوقت المناسب ، مهما كانت الظروف والنتائج ... وإلاّ حَكَمَ علينا التاريخ . وسيكون حكمُه قاسياً !!...
* * *
إنّنا نعلم أنّ ظروفنا المعيشيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ، بل والنّفسيّة أيضاّ ، هي ظروف صعبة ، ولا تدعو إطلاقاً إلى التفاؤل أو الارتياح ، بل على العكس ، إنها تدفع إلى الاهتمام بالمصالح المعيشيّة والحياتيّة الخاصة ... وحالات اليأس والقنوط والإحباط تسيطر علينا ، وتعمّ شعبنا بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعيّة ...
هذا صحيح !!... ولكن الصحيح أيضاً أنّ الأجيال القادمة ، ومن وُجهة نظر تاريخيّة مستقبليّة ، بعد خمسين أو مئة أو مئتي سنة ، أكثر أو أقلّ ، لن تقولَ إنّ الأوضاع كانت قاسية ، قاتمة، سيئة . فهذا واقع . ولكنها سوف تسأل ، ربما ، ماذا فعل المتعلمون وأصحاب المهن الحرّة وما قام به المثقّفون وما عملوه وما قدّموه لمواجهة تلك الأوضاع السّيئة ، وكيف استجابوا لتلك التحدّيات الكبرى ؟!!... (2)
كلنا يحفظ عن ظهر قلب منطوق الحكمة الشريفة وهي تقول : مَن رأى منكم اعوجاجاً ، فليقوّمه بحدّ السيف ، فإن لم يستطع ، فباللسان ... أي بالكلمة !! ونتوقف هنا أمام هذا المقطع فقط ، ذلك أننا نعيش حتى الآن في نظام ديمقراطيّ ، حرّية الكلمة مسموحة ومعترف بها شرعاً ، دستوراً وقانوناً ... من أجل ذلك ، فإنّ استخدام الكلمة ، بقوّة وبحزم ، عمل مشروع ومن حقنا : فالكلمة الحرّة الصريحة ، الصادقة ، الجريئة ، إنّما هي سلاحنا ، ولربما سلاحنا الوحيد ، هي سلاح الفكر الديمقراطيّ والعقل السليم .
* * *
في هذا السياق العام ، إذن ، يمكننا تحديدَ الأهدافِ الرئيسة لمؤتمرنا وأغراضه في نقطتين أساسيتين :
1ـ استخدام الكلمة الحرّة في تحقيق هذا الحوار الديمقراطيّ والمشاركة الوطنية الفاعلة لمختلف قطاعات الشعب عندنا .
2ـ إثارة اهتمام الرأي العام بهذه المشاريع الكبرى والتي سيكون لها تأثيراتٌ عميقةٌ في حياة مجتمعنا . ذلك أنّ المواطنين جميعاً هم أصحاب المصلحة الأولى والأخيرة في هذه المشاريع ونتائجها عليهم .
وإذا كنت لا أريد أن أستبقَ ، ولا يحقّ لي أن أستبقَ ، نتائجَ هذا المؤتمر وهذه الندوات والمحاضرات العلميّة المتنوعة الاختصاصات ، إلاّ أنني أستطيع أن أقول ، من خلال اهتمامي المستمر والواسع ، وقراءاتي في المدّة الأخيرة واتصالاتي تحضيراً للمؤتمر وللندوات مع المهتمين وأصحاب الاختصاص بهذه المشاريع الكبرى ، إنّني قد لاحظت بصورة واضحة وجلية أنّ هناك مُعطياتٍ لا تزال مجهولةً ، ومعلوماتٍ أساسيّةٍ وضروريّةٍ غير متوافرة حتى الآن ، ورؤيةً واقعيةً لهذه المشاريع بمجملها غيرُ متكاملة ، وبالتالي فإنّ الرؤية المستقبليّة غير واضحة ولا تزال ضبابيّة ، كما قال لي أحد المهندسين في دار الهندسة ، وبالحرف الواحد . فكيف يمكننا والحالة هذه أن نُطلق هذه المشاريع الضخمة وبهذه السرعة ، والنشاط الإعلاميّ الذي رافقها ، دون أن يكون قد توافر لدينا المعلومات والإحصاءات والدراسات اللازمة لها وأسبابُ نجاحِها وتحققت بالتالي عندنا رؤيةٌ واقعيّةٌ حقيقيّةٌ هادئة لهذه المشاريع ونتائجها المستقبليّة .(3)
وبما أنّ هذه المشاريع الكبرى ، مشاريع الأوتوستراد الجنوبيّ والبولفار البحريّ وواجهة صيدا البحريّة الأثريّة ومشروع مرفأ صيدا المتخصّص الكبير ، لا تهمّ ، كما قلت ، فئةً معيّنةً من الناس ، مهما كانت ، أو اختصاصاً واحداً من الاختصاصات ، كما أنّه لا يجوز في الوقت ذاته ، أن يُؤخذ أيُّ مشروعٍ على حدة ، وبمعزلٍ عن المشاريع الأخرى وتفاعلها وتأثيرها وتأثرها فيما بينها ... لذلك كانت منهجيتُنا التي اعتمدنا عليها كلياً في تنظيم هذا المؤتمر، هي روحيةُ وأسلوبُ إشراكِ جميع الطاقات العلميّة والاختصاصات الفنيّة والتقنيّة المتوافرة لدينا ، ومحاولةُ طرحِ هذه المشاريع وبحثها ومناقشتها من جوانبها المختلفة . فكان هاجسُنا الأول والأخير معرفةَ الحقيقة واقعياً ، ومعرفةَ رأي الآخر ، مهما كان .
لذا وفي إطار هذا التوجّه ، فقد اتصلنا مباشرة بكلّ من أشير إلينا الاتصال بهم وطلبنا بإلحاحٍ من الجميع دون استثناء ، أن يشاركوا معنا ويساهموا مساهمة فعليّة في هذه الندوات والمحاضرات ، كلّ ضمن اختصاصه وتجربته المهنيّة والعلميّة .
وإذا كان قد تجاوب معنا ، مشكورين ، كوكبةٌ من أصحاب الاختصاصات المتنوعة ، بهدف إغناء هذا المؤتمر ، إلاّ أنّ الذين اعتذروا ، لسبب أو لآخر ، هم أيضاً ليسوا بالقليلين . ولست أدري سبب تخوفهم من المشاركة معنا ، ربما يكون تخوفُهم إنّما هو من هذا الفكر الحرّ ، الوطنيّ ، الديمقراطيّ ، المستقل . إذا كان الأمر كذلك ، فهو فعلاً يخيفُ أصحابَ المصالح الخاصة والضيّقة ، ومراكز قوى الاقتصاد ، ذات العقليّة المركنتيلية وسلطة المال الاحتكاريّة ومن يدور في فلكهم . ذلك أنّ هذا الفكر الحرّ الديمقراطيّ ، في المدى البعيد ، أمضى سلاحاً وأبقى أثراً وأبعد نفوذاً . وهنا كنت أتذكر ما كان يقوله لنا أستاذنا ، المستشرق الفرنسيّ الكبير " جاك بيرك " ويردّده دائماً على أسماعنا: لا تنسوْا أبداً أنّ الأفكار هي التي تصنع التاريخ !!... ، طبعاً تلك الأفكار التي تصدرُ من الواقع وتعودُ إليه لتغييره .
وهنا ، لا يسعني أخيراً وليس آخراً ، إلاّ أن أتقدّم بالشكر الجزيل والتقدير العميق لكل من ساهم معنا بفكره أو بعمله أو بمشاركته ، في إنجاح هذا المؤتمر الوطنيّ والعلميّ الذي نفتتحُ أعمالَه في هذه الأمسية . وأخصّ بالذكر المحاضرين والمعقّبين والمناقشين والحضور الكرام الذين لبّوا جميعاً دعوتَنا هذه ، والذين تجشّموا مشقة البحث والتنقيب والدرس في موضوع أو مواضيع متشعبة، المعلومات حولها شحيحة ، نادرة ، هذا إذا لم تكن معدومة ... ومع كلّ ذلك ، أبوْا إلاّ أن يمدّوا لنا ، تطوّعاً ، يد المساعدة والمشاركة لإنجاح هذه النّدوات العلميّة ، التي نأمل أن تسدّ نقصاً كبيراً في ثقافتنا العلميّة والمعرفيّة والموضوعيّة حول ما يجري في مجتمعنا ... وإنّنا سنعمد في القريب العاجل إلى نشر وقائع هذه النّدوات والمحاضرات كاملة مع مناقشاتها ووثائقها في كتاب نرفعه إلى الجهات المسؤولة ، وإلى من يهمه الأمر ، ومن ثمّ تعميمه على الرأي العام . وسنعمل على متابعة نتائج هذا المؤتمر وإخراجها إلى حيّز التنفيذ بطريقة حرّة ديمقراطيّة .
لهذا ومن أجل تحقيق هذا الهدف ، فإنّنا نأملُ من جميع المشاركين من محاضرين ومعقّبين ومناقشين ، أن تكون طروحاتُهم واضحةً ، وآراؤهم صريحةً ، ومواقفُهم موضوعيّةً . فنكون بذلك قد حققنا أهدافَ مؤتمرِنا وغاياتِه ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) لقد كان من المقرّر إقامة هذا المؤتمر العام في شهر شباط من العام الماضي . ولكن وبناء على طلب المسؤولين في صيدا ـ وهم كانوا مشاركين مبدئياً معنا فيه ـ تأخر إلى آذار ومن ثمّ تحدّد موعده في 12 و13 نيسان الماضي . ولكن وقوع الاعتداء الإسرائيليّ " عناقيد الغضب " في تاريخ عقد مؤتمرنا تحديداً ، دفعنا إلى تأجيله مرة أخرى . وكذلك في ما بعد ، تأجل مرة تلو المرّة بناء على اقتراح ورغبة بعض الأصدقاء ...
2) إننا نعلم ، وكلنا يعلم ، أنّ المسؤولين عندنا عموماً ، في الماضي أو في الحاضر ، ولربما سوف يستمرّ ذلك في المستقبل ، لا يهتمون بالتاريخ ، ولا ماذا سوف يقول التاريخ عنّا ، فهم لا يقرأون التاريخ ، ولا عِبَر التاريخ ولا دروسَه !! وإنما لسان حالهم وسلوكهم يقول : مرحبا تاريخ !!... كما نعرف منطق الذين يتمسكون بحبل الانتظار والترقّب والحيطة والحذر وهم يقولون : صحيح ما تقولونه ونحن موافقون ، بسّ ، ولكن !!... لننتظر ، لنر ما تسفر عنه الأحداث !!... ولكلّ حادث حديث !!... كلمة : بسْ ، ولكن ، تلغي الموافقة السابقة كلياً ..
3) ولَكَمْ كنتُ أردّد بيني وبين نفسي ، هذا القول لأحد علماء الاجتماع : " أن تعيش في مجتمع ما ، حتى ولو كان مجتمعك ، لا يعني إطلاقاً بأنك تعرف هذا المجتمع معرفة علمية موضوعية حقيقية ..." هذا صحيح . إنّ معرفتنا للواقع الاجتماعيّ الذي نعيش فيه ، إنما هي معرفة " تجريبيّة " ، انطباعيّة ، معرفة ما يتناقله جيل عن جيل ، وما يأخذه الأحفاد عن الأجداد ... أي معرفة قيل عن قال !!...