التراث العربي المسيحي من خلال الحضارة العربية الإسلامية
ندوات /
تراثية /
1994-06-15
الدكتور مصطفى دندشلي:
طبعاً أرحّب مرّة ثانية بالصديق العزيز الأب سمير خليل اليسوعي لمجيئه الى صيدا وتحمّله مشقّة الحضور والعذاب. وذلك كي نتناقش في موضوع أعتقد بأنه موضوع الساعة, ليس فقط في لبنان وأنّما في العالم العربي بل وأكاد أقول في العالم قاطبةً. وهو موضوع التراث العربي المسيحي من خلال الحضارة العربية الاسلامية, دور هذا التراث المسيحي العربي في الحضارة العربية من ناحية التأثير والتأثّر. وأترك الحديث للأب سمير خليل كي يقّدم لنا موجزاً مختصراً عن مضمون محاضرته السابقة, ثم بعد ذلك ننتقل الى فتح باب النقاش والملاحظات.
الأب سمير خليل اليسوعي:
شكرا دكتور مصطفى, إني أشعر بأنّ الأيجاز أصعب من الإطناب خصوصاً وأنّي لم أتهيّأ لهذا الموضوع. بعض الأفكار البسيطة قد لا تكون مرتّبة. أولاً, الحضارة العربية كانت أصلاً حضارة بدويّة, وبالتالي لم تركّز على العلم والتنقيب إنّما على الشعر والمشاعر والحِكَم. وعندما اختلطت بعد الفتح العربي بالحضارات الأخرى, لاسيّما بحضارة الروم والسريان ثم حضارة الفرس, بُهِرتْ الى حدٍ كبير بما اكتشفته. ولدينا أدلّة عديدة مثلاً من مؤلَّف ابن خلدون عن هذا الإعجاب الذي شعر به العرب عندما قدِموا الى الشام والى بلاد الفرس والى الاسكندرية. وهذه الحضارات اليونانية والفارسية التي تكوّنت على مرّ العصور, أكثر من ألف سنة, تركّزت أخيراً عند السريان. لقد استوعبوا هذا التراث اليوناني وترجموه وعلّقوا عليه. ويُقال أنّ حركة نقل التراث السرياني, ولدينا دلائل على ذلك, بدأت في القرن الخامس ولكن أخذت أوجها في القرن السادس مع سرجيوس الرأس عيني, وانتهت أخيراً مع حُنين بن إسحاق في القرن التاسع للميلاد. وكانت الأديرة في نفس الآن مدارس ومستوصفات, فكان يُدرَّس في الأديرة الدراسات الدينية من تفاسير وآباء الكنيسة, وما يُدرَّس اليوم في كليّات اللآهوت. ولكن بالإضافة الى ذلك كانوا يدرّسون الفلسفة لاسيما المنطق أي منطق آرسطو والمفسّرين الآرسطوطاليين والافلاطونيين المُحدَثين. ومن ناحية أخرى كانت تُدرَّس العلوم من رياضة وصيدلة, والطب خصوصاً. لذلك نجد, في بداية العصر العباسي في أواخر القرن الثامن للميلاد, أنّ هذه الحضارة العربية المتأثّرة بالفرس انفتحت على هذا التراث وطلبت ممن كان يعيشه أن يوصِله للعرب. فأخذوا في ترجمة هذا التراث أولاً من اليونانية ومن السريانية. وحركة النقل معروفة ومشهورة بدأت أيّام الأمويّين, ولكن لم تكن منظّمة حينها. إنّما أخذت شكلاً منظّماً مع المأمون أي نحو سنة 825م (من820م الى 830م). ونجد فعلا ترجمات عديدة عند الأطبّاء لبقراط (ايبوقراط) وجالينوس وذلك من نحو سنة 830م حتى سنة 1000م. فمثلاً أبو الفرج عبدالله ابن الطيّب الفيلسوف والمطبِّب وسكرتير البطرك والمفسِّر والفقيه, من مؤلّفاته فقه النصرانية وفردوس النصرانية والخ, وهو أيضاً رئيس البيبارستان العضدي المؤَّسَّس على أيّام عضد الدولة. أبو الفرج أتمم ترجمة كل مؤلفات بقراط وجالينوس, ووضع ثمار ما سمّاه "المختصرات" وكانت تُسمّى "جوامع الإسكندرانيين".
وذكَر ابن أبي أُصيبعة أخباراً. فقد أورد مثلاً قصّة تشرح كيف وفد الى بغداد إثنان من أطباء بلاد الفرس ليتتلمذا على يد المعلم الأشهر ابن الطيّب, فسألوا عنه فأشار الناس إلى مكان معيّن وكانت كنيسة, فدخلوا الكنيسة وسألوا عن أبي الفرج وكان عندئذ يقدِّس. رآهم أبو الفرج وعلِم من لباسهم أنّهم من بلاد الفرس, وبعد القدّاس والصلوات أتى إليهما وسألهما عمّا يرغبان فيه, والغريب أن نرى كيف صُدم هؤلاء بمرآه وهو لابس ثوب الكنيسة ويبخِّر, ويقول ابن أبي أُصيبعة "كان بيده المبخرة وكأنه صبي" بازدراء. وقامت مناقشة وكان وقت الحج, فسألهما أبو الفرج هل حججتما؟ فقالا لا, فقال لهما اذهبا واقضيا الحج ثم عودا اليّ. وبعد عودتهما من الحج, وقد نحلا وازدادا سمرة, سألهما عن مناسك الحج " هل طفتما؟ هل رجمتما الشيطان؟ هل سعيتما وركضتما بين الجبلين؟", قالا نعم. فأجابهما أنّ أمور الديْن تؤخَذ نقلاً لا عقلاً, ففهموا أنّه يشير الى مرآه عندما كان يصلّي وهو يبخّر. ومثلاً قسطا بن لوقا, في نهاية القرن التاسع ومطلع القرن العاشر, هو أوّل من كَتَب "كتاب في تدبير الأبدان في سفر الحج", وهو الكتاب الوحيد المكتوب بقلم طبيب عربي عن تدبير الصحة في الحج, وكتبه مسيحي للوزير ابن مخلد نحو سنة 870م أو 860م تقريباً. لدينا أمثلة عديدة على دور الأطباء في العهد العباسي, مثلاً رسالة الجاحظ الشهيرة, له رسالة في الردّ على النصارى يشرح فيها لماذا يُكرِم الشعبُ النصارى ويرذُل اليهود, بل إنّهم بفضّلون النصارى على المسلمين. فيقول لأنّ فيما بينهم علماء وأطباء وفلاسفة ومنطقيين. ثم يردّ الجاحظ على النصارى ويحاول أن يحطَّ من مكانتهم في نظر الشعب في هذه الرسالة, والتي كتبها بطلب من المتوكِّل نحو سنة 855م. الأمثلة على أهمّية النصارى في الطب لا نهاية لها.
أمّا في الفلسفة فكان لهم دور مهمّ في الترجمة أولاً ثم في التعليق وأخيراً في التأليف, وإن كان دورهم في التعليق وفي التأليف غير معلوم على حقيقته. منهم مثلاً أساتذة الفارابي, أوّل أستاذ للفارابي كان إبراهيم المروزي من مشارِقة مَرُوْ أي نساطِرة مَرُوْ, ثم بعد وفاته انتقل أبو نصر الفارابي الى حرّان فدرس على يد القويري ويوحنا ابن حيلان وهما ايضاً من المسيحيين النساطرة, ثم انتقل الى بغداد بعد وفاة يوحنا ابن حيلان ودرس على يد أبي بشر متّى بن يونس . وعند وفاة أبي بشر سنة 940م انتقل الى حلب ثم توفي في الشام. وكان تلميذ أبي بشر متّى بن يونس وأستاذاً في نفس الوقت, ومن أشهر تلاميذ الفارابي يحي بن عدي مؤسِّس مدرسة بغداد المنطقيّة وله من التلاميذ السجستاني والتوحيدي وعلي بن عيسى الوزير وأبو علي عيسى بن زُرعا الذي كمّل مدرسة يحي بن عدي في بغداد, فتتلمذ على يده ابن بطلان وعلى يد ابن بطلان ابن الطيّب الذي تكلّمتُ عنه كطبيب.
وهذه المدرسة التي دامت قرناً, مدرسة المنطقيين الآرسطوطاليين, ابتداء من المفسّرين الذين فسّروا باللغة العربية ولكنهم كتبوا بالسريانية وهم إبراهيم المروزي والقويري وابن حيلان وأبو بشر. فانتقلت الى يحي بن عدي وأخذت صورة منظّمة, صورة مدرسة باللغة العربية لها مؤلّفات ولها تلاميذ. وقد ذكرتُ في أطروحتي عن يحي بن عدي عشرة تلاميذ مهمّين له. وهو أوّل من وضع كتاباً منظّماً نظاماً فكرياً للفلسفة الأخلاقية في العالَم المُسلم وهو كتاب "تهذيب الأخلاق". ويسبق كتاب "تهذيب الأخلاق" لـ مسكوَيه الذي هو من تلاميذه ايضاً, بثلاثين عاماً على الأقل. وكتاب يحي طُبع عشرون مرةً ونُسب الى الجاحظ والى ابن عربي والى ابن هيثم والى أكبر المؤلفين. وكل من اهتم بالتراث الفلسفي نشر هذا الكتاب, وأخيراً نشرته في القاهرة منذ سنة. إلّا أنّه لم يُدرَس حقّ الدراسة, وإن كان د. ناجي التكريتي العراقي قد كرّس اطروحته عنه. في نظري هو أوّل مؤلَّف منظّم حاول أن يبني فلسفة عربية يونانية, إسلامية مسيحية. لم يذكر أبداً لا القرآن ولا الإنجيل ولم يذكر الفلاسفة كذلك, إنّما استوعب جالينوس وآرسطوطاليس والأفلاطونيين ووَضع في صيغة عربية رائعة مؤلَّفه في الأخلاقيات. وفي نظري لم يضاهيه أحدٌ في هذا الموضوع, وكان تلميذ الفارابي. له مساهمة في الفلسفة وفي الطب خصوصاً وفي الصيدلة وفي علم الحيوان. أمّا مساهمتهم في علم الرياضيات فأقل أهمّية, فالصائبة الحرّانيون اهتموا اكثر منهم بعلم التنجيم والرياضيات. إلّا أنّ قسطا بن لوقا من أشهر الرياضيين وهو الذي ترجم أولاً لـ إقليدس ثماني كتب من العشرة, وترجم كتاب "المخروطات" ومؤلّفات أخرى. ثم وضع كُتب في الفلسفة والطب, له في الطب عشرات المؤلفات, وله في الدين منشور "ردّ على نبوّة محمّد وعلى إعجاز القرآن", وكتاب شهير تُرجم الى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر وهو كتاب "في الفرق بين الروح والنفس" وهو أشهر كتاب في هذا المضمون. وتمّ ترجمة الروح والنفس بـ(أنيموس وأنيما) وهو كتاب مشهور جداً. أمّا في العلوم الاخرى فكان إسهامهم أقل.
ما هي أهميّة هذا الدور؟ الهدف من هذه الدراسة في نظري ليس الإفتخار بدور النصارى, فهذا لا يجدي. سبقوا المسلمين لأسباب تاريخية, وبعد ثلاثة أو أربعة قرون, وبعد أن تتلمذ المسلمون على يد النصارى سبقوهم. وفي القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي, الرابع والخامس الهجري, أصبح المسلمون هم أساتذة الفلسفة والطب والعلوم لسبب عمليّ وهو أنّ كل حضارة تحتاج الى قرن أو قرنين لاستيعاب فكر معيّن وحضارة معينة قبل أن تُنتج في هذا المجال.
ما هي أهمية هذه المرحلة؟ أولاً, في نظري العصر العباسي هو إجمالاً, مع بعض الفترات المعروفة وفترة المتوكّل استثنائياً, عصر منفتح في جميع الاتجاهات تقريباً. منفتح حضارياً على حضارة الروم والفرس, ومن خلال الفرس منفتح على الهند. وبفضل الفتوحات والتجارة التي أوصلت العرب والمسلمين الى أقاصي الهند والصين, وبفضل إدخال الورق من الصين, "الكاخَم" كما يسمّونه, وبفضل كل هذه الحركة الثقافية دخلت تيارات وأفكار جديدة في الحضارة الإسلامية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من هذه الحضارة. وبعد أن كانت الحضارة الاسلامية قاصرة, في بدايتها, على الأدب العربي والعلوم القرآنية من لغة وتفسير وحديث, انفتحت على شتّى العلوم وعلى الفِكر. ثانياً, أهميّة هذه المرحلة هي تكوين لغة عربية ليّنة, وهذا من أهم ما أراه لغويّاً وثقافياً في هذه المرحلة. وسأنشر مقالة قريباً لـ إليّا النصيبي, هي "رسالة إلى الوزير أبي القاسم ابن على المغربي" من سنة 1027, حول موضوع غنى أو فقر اللغة العربية. يقول فيها إنّ اللغة العربية ليست غنية لأن لها خمسمائة لفظ للتعبير عن الأسد مثلاً, وإنّما غنى اللغة يأتي من قدرتها على التعبير عن كل احتياجات العصر. ولذلك يُقارن في مجادلة بين الّلغة العربية واللّغة السريانية ويقول إنّ السريانية أغنى من العربية, وإن لم تكن موسوعاتها بحجم الموسوعات العربية, إلّا أنّها تستطيع أن تعبّر عن كل العلوم الحديثة من صيدلة وطب وعلم الحيوان والخ.
إذا فكّرنا اليوم في المشكلة القائمة في حضارتنا, مشكلة توصيل العلوم المعاصرة الى معاصرينا, وتكاد تكون العمليّة غير ممكنة, نفهم أهمية العصر العباسي الأول والثاني خصوصاً. إذا أردنا أن نعبّر اليوم عن علوم الكمبيوتر, علينا أن نتكلم الإنكليزية. والبرامج المعربة للوندوز (Windows) الموجودة لدينا, هناك برنامج "صخر" مُعرّب وهناك برنامج وُضع في الكويت معرباً كذلك. ولكن وإن عُرّبت إلّا أنه في الواقع يبقى من الأسهل لنا أن نتكلم عن save ,file ,enter)) وغيره, من أن نستعمل هذه المفردات بترجمتها المعرّبة. وفي الرياضيات والدراسات النوويّة والطب لدينا ذات المشكلة. لدرجة أنّه في شتّى جامعات العالم العربي, ما عدا في سوريا وربما في بعض البلدان الأخرى, تُدرَّس هذه العلوم بالإنكليزية أو الفرنسية. لقد استطاع هؤلاء المفكرون أن يعكسوا مجرى التاريخ, حتى إنّ المفكرين الغرباء في القرن الثالث عشر في أوروبا اضطروا الى تعلّم اللغة العربية لدراسة الطب, فهذا شيء أساسي.
لماذا وصلت الحضارة العباسية الى هذه المرحلة الرائعة؟ في نظري لسببين. السبب الأول, همّة الخلفاء العباسيين وانفتاحهم على كل ما هو قيّم. فقد دفعوا أموالاً طائلة لترجمة وإيصال هذا التراث. ويُقال أنّ حُنين كان يكتب على ورق سميك وخط واسع لأنّ المأمون كان يدفع له نظير الورق ذهباً, وكان يقول المأمون إني مازلت أربح. إذاً شهد هذا العصر إنفتاح المسؤولين على الحضارة والثقافة. السبب الثاني, إنفتاح النصارى السريان, على الحضارة الإسلامية وعلى اللغة العربية واعتبار أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من هذه الحضارة. وقد ذكرتُ في المرة السابقة أنّه هناك سبباً عملياً ديموغرافيا ساعد على إنصهار المسيحيين والمسلمين داخل هذه الحضارة, وهو أنّ عدد المسيحيين كان في العصر العباسي الأول يفوق عدد المسلمين. ويُعتبر حسب الدراسات الديمغرافية التي وُضعت خلال عشرات السنوات الأخيرة, أنّ التغيير العددي قد تمّ في نهاية القرن الرابع الهجري, نحو سنة ألف للميلاد, وبدأ المسيحيّون يصبحون أقليّة نوعاً ما.
ما أهمّية هذه الملاحظات لوضعنا؟ الثقافة هي نتيجة تيّارات التأصُّل في تراثنا العربي أو تراثنا الغربي إن كنت أنا غربياً, أو في أي تراث كان, والإنفتاح على جميع التيّارات الأخرى. لذلك أرى أنّ هذه النتيجة هي في غاية الأهمية في أيّامنا. اليوم هناك تيّارات ترفض التأصّل وهي غالباً نجدها عند المسيحيين. يرفضون التأصّل بالحضارة العربية لأنها أصبحت حضارة إسلاميّة, فبرفضهم الإسلام ديناً يرفضون الإسلام حضارة. وهذه نظرة خاطئة تؤدي الى التقوقع. وكما قلت في المرّة السابقة نجد هذه الحركة في مصر وفي العراق وفي لبنان, ولا نجدها بذات القدر في سوريا أو في فلسطين. ولكن هناك خطرٌ آخر وهو التركيز على التأصُّل لدرجة رفض الإنفتاح, وهذا التيّار موجود أكثر عند المسلمين. خصوصاً عند بعض التيّارات الأصوليّة التي تقول بالعودة الى الأصل, وهذا شي أساسي, ولكن تقول برفض كل ما هو غير عربي أو غير إسلامي أيضاً. وهذا التيّار قد يأخذ طابع سياسي برفض الغرب سياسياً, ويأخذ أحياناً طابع الجهاد بالمعنى العادي للكلمة, أو يأخذ طابع حضاري برفض كل لغة أجنبيّة أو كلّ ما يأتي من الغرب, وقد يأخذ طابع ديني فيُضاهي بين الغرب والمسيحيّة ويُصبح تيّاراً إسلاميّاً رافضاً لأي دين آخر. هذان خطران موجودان وكل تيّار منهما يؤدي الى تقوقع والى خسارة. وهنا الخلاصة, نريد بناء عالماً عربياً جديداً متأصّلاً منفتحاً, عالماً عربياً يتماشى مع العصر بل يقود يوماً ما نهضةً جديدةً. وهذا لا يتمّ إلّا باستيعاب كلّ ما هو قيّم في عصرنا دون أن نترك الجذور والأصول. هذا هو السؤال وهو خطير والكل يخشاه, هل نرفض العصر والحداثة لأنها خطيرة وهي خطيرة على الأسلام وعلى المسيحيّة, وهي خطيرة على الحضارة والفكر والتقاليد والمجتمع بلا شك, ولكن لابدّ من استيعاب الحداثة. أو أن نرفض الأصل العربي الإسلامي أو المسيحي وهو خطر آخر قد يكون أخطر من الأوّل؟ الحل هو أن نقبل هذا التحدّي, تحدّي العصر وأن نكافح ونجاهد. وهو الجهاد الحقيقي, نجاهد لنربط بين الدين والحداثة, العقل والتقليد, العقل والنقل كما كانوا يقولون. هذا هو الحلّ الوحيد.
وأخيراً كمسيحي أضيف ملاحظة, يشعر المسيحيّون في العالم العربي الإسلامي بأنهم مهدّدون في كيانهم, وهذا شيء واضح لأسباب عمليّة وديمغرافيّة. وهذا الشعور يزداد يوماً بعد يوم إمّا بسبب هجرة الكثير من المسيحيّين أو بسبب إنتشار الحركة الأصوليّة ومحاولة أسلمة المجتمع التي نراها كلّ يوم في كل البلدان العربيّة الإسلامية, هذه الملاحظة الأولى. ثانياً, من السهل جداً أن يُصبح العالم العربي عالماً إسلامياً, فالمسيحي يميل للأسف الى الهجرة لأسباب يمكن تفصيلها فيما بعد, ويكفي أن يزداد الضغط شيئاً ما على بقعةٍ ما فيهجّرهم. ولكن إن هاجر المسيحيّون وإن أصبحت البلدان العربية وإن أصبح لبنان مسلماً أو إسلامياً وهذا من الممكن, لا يوجد أي إشكال عملي لتحقيق هذا الهدف, أعتقد أنّ الذي يفقد شيئاً أو يفتقر إلى شيء هم العرب إجمالاً من مسيحيّين ومسلمين. إن كان هذا الحل ممكناً, وهو ممكن, إلّا إنه خسارة للجميع والعصر العباسي يدلّنا على ذلك. النهضة هي نتيجة تفاعل جميع التيّارات, إن لم تكن هدّامة للإنسان, فكلّ تيّار كان له مكانة في بناء النّهضة. هذه تقريباً خلاصة المعلومات, وليس في ذلك شيء جديد عليكم إنما هي مجرّد بلورة لبعض الأفكار. وشكراً .
الدكتورمصطفى دندشلي: أنا أتمنى على الأب أن يوضّح لنا أمراً, وهو كان قد تكلم عن دور العلماء السريان المسيحيّين وعن عملهم في نقل الفكر اليوناني أو الفارسي إلى اللغة العربيّة. نحن في تراثنا العربي الفلسفي أو الأدبي لا نجد أثر لأدباء أو فلاسفة مسيحيّين, بينما لدينا الفارابي وابن سينا وفلاسفة عرب مسلمون. إذا كان للمسيحيّين هذا الأثر وإذا كان الفارابي تتلمذ على يد المروزي لماذا لم يظهر ويبرُز فلاسفة مسيحيّون في التراث العربي أو أدباء وشعراء.
الأب سمير خليل اليسوعي: السبب يرجع إلينا والى جهلنا. أعني أنّ هناك مفكرون وفلاسفة وأطباء مسيحيّون بكثرة, ولكن هذه المؤلّفات ما زالت في المخطوطات, وبدأت منذ ثلاثين سنة تظهر إلى العالم, والمشهورون منهم هم الكبار. حتى الفارابي؟ من منّا قرأ الفارابي؟ لم تُنشر مؤلّفات الفارابي كلها بعد. سينزل في السوق غداً كتاب لـ ماجد فخري عن ابن باجّة, تعليقه على منطق الفارابي. حتى الفاربي لم يُنشر إلّا أجزاء منه. ونشرت نبهات تركر في أسطنبول أربع مقالات, ودانلوب كتابين. حتى في الغرب لم تصل إلينا. فمؤلّفات يحي بن عدي مثلاً لم يُنشر منها الرّبع, والدكتور خَليفات في الأردن نشر حديثاً, منذ أربع سنوات فقط, عشرين مقالة من أصل مائة عن "مؤلّفات يحي بن عدي". وفي أرقى مستوى الفلسفة الآرسطوطاليّة, ولكنها صعبة جداً لفهمها, نشرتُ رسالة واحدة "مقالة في التوحيد" وكرّست ثلاث سنوات من حياتي لدراسة هذا النص ولم أفهمه في الواقع لأني لست فيلسوفاً إنّما نشرته منطقياً. نشر غيرهارد أندرس مقالة واحدة في ألمانيا لـ يحي بن عدي, ونشر إيري في فرانكفورت مقالة واحدة لـ يحي. والسبب يعود إالى أنّ هذه المخطوطات موجودة اليوم في العالم كله في طهران وفي الهند وفي مصر. وهذه الدراسات إجمالاً لم نعتنِ بها, لا أقول المفكّرين المسيحيّين, لم نعتنِ بتراثنا إلّا حديثاً. وكلّ مفكّر وكل باحث يرجع الى ابن رشد وابن سينا (المشهورين), مثلما في الغرب يدرسون أغوسطينوس وتوما الأكويني والبيرتوس الكبير وهناك العشرات من المفكّرين في العصور الوسطى ولكن لم يُدرَسوا. مَن درس فيكتور دو لابوريه؟ لا أحد. لذلك أقول أنّ العجز يرجع إلينا لا إليهم. ولنقل صراحة لا أعتقد أنّ المسلمين اغفلوا أو طمسوا هذا التراث لأسباب معيّنة أبداً, هذا واقع التراث العربي بالأجمال.
سيّد من الحضور: بالإضافة إلى ما تقدّم به الأب سمير. في الواقع إنّ عدم ظهور الإنتاج الفكري المسيحي في الحقبة التي نتكلم عنها, يعود إلى أنّه هناك مشروع كبير هو مشروع الحضارة العربية الإسلامية. فالمشروع الحضاري هو مشروع حضارة عربية إسلاميّة قائمة ورثت الحضارة الفارسيّة والحضارة الرومانيّة. فخصوصيّة هذه الحضارة العربيّة الإسلاميّة هي التي فرضت نفسها. كما أنّنا حاليّاً نعيش حضارة الغرب, فنحن مضطرون أن نذهب إلى الغرب وإلى حضارته. الحضارة الغربية فارضة نفسها في الصناعة والعلم والأدب والفلسفة والفكر, ونحن العرب نعيش حالياً مأزق حضاري. هذه سنة التاريخ في التطوّر الحضاري, الغرب في القرن الثالث اضطر أن يستعين بالمنهج العلمي العربي حتى ينهض. لذلك في تلك الفترة كان هناك مشروعاً حضارياً عربياً, مشروعاً نهضوياً, وهو الذي أدّى لأن يكون هناك حضارة عربيّة. وأكبر دليل على ذلك أنّ معظم الفلاسفة مثل الفارابي والغزالي وابن سينا وابن رشد لا ينتمون إلى العرب ولكن انتجوا للحضارة العربية, وبنوا فلسفة العرب ومجد العرب. هم لا ينتمون إلى العربية لكنّهم مضطرّون لأن يخضعوا إلى منطق التطوّر في الحضارة, والذي كان تطوّر الحضارة العربية الإسلاميّة. وشكراً.
الدكتور الشيخ علي عمّار: نشكر الأب على هذه المداخلة المهمّة, وتبقى للتفاصيل التي ذكرتَ الأهميّة التاريخيّة. وأمّا ما يعنينا فهو ما يُمكن أن يُستنتج من مثل هذه التفاصيل ومن ما أوردتَ من تعليقات في خاتمة هذه الكلمة. طبعاً نحن لا يمكننا إلّا أن نعترف للتاريخ بأثره وأهميّته على الحضارات الإنسانيّة وعلى المجتمعات الإنسانيّة في حاضرها ومستقبلها. ونلحظ من خلال العرض الذي تقدّمتم به تأكيدكم على أهمّية التواصل بين الشعوب أو التكامل بين الحضارات أكانت عربيّة أم غربيّة إسلاميّة أم مسيحيّة أم يهوديّة إلى ما هنالك من أفكار ومعتقدات. هذه حقيقة ينبغي أن تُكرّس وينبغي أن يتم التعاطي معها من خلال ما نراه. وهو أنّ المصلحة الإنسانية بشكل عام تقتضي مثل هذا التواصل ومثل هذا التكامل.
حقيقة نحن نشعر هذه الأيّام أنّ عمليّة الإبتعاد أو الإنقطاع لم تكن خياراً إسلامياً أو مسيحياً أو عربياً, وهي حتماً ليست خياراً غربياً. ولكن هناك شعور يصل الى حد الشك, أن هناك شيء مفتعل في هذا المجال. عمليّة الإنقطاع مَن المسؤول عنها هذه الأيّام؟ هل هو الإنسان المسلم العربي؟ هل هو الإنسان المسيحي الغربي مثلاً؟ هذه مسالة تحتاج الى نقاش وتحتاج الى أن نخوض فيها. هناك شعور بأنّ الغربي اليوم, بحضارته وبعلمه وبفلسفته, يعمد أحياناً إلى وضع شيء من الموانع أو الحواجز أمام الآخر من أجل أن يُبقيه على تخلّفه أو من أجل أن يُبقيه ضمن حدود أوليّاته التي توصّل إليها أو التي نُقلت إليه. طبعاً هذا يحتاج نقاشاً طويلاً بعض الشيء. المسألة الثانية التي تهمّنا ايضاً, نحن نريد أن نميّز بين ما هو الإسلام بكونه عقيدة وبكونه تشريعاً وبكونه حياة يعيشها الإنسان المؤمن بالإسلام, كما يعيش المسيحي مسيحيّته بالطريقة التي تفرضها العقيدة المسيحيّة على هذا الإنسان. هذه مسألة لا يجب أن نتناقش فيها أساساً, الأصوليّة المسيحيّة أو الأصوليّة الإسلاميّة أو الأصوليّة اليهوديّة أرى أنّها شيء طبيعي. الإنسان عندما يكون مسيحي أو مسلم أو ماركسي أو وجودي أو أي شيء آخر يكون لديه فهم لهذه العقيدة ويكون لديه إلتزام بها. والإلتزام صعب أن تجعله جزئي, فأكون مسيحياً جزئياً أو مسلماً جزئياً أو شيوعياً جزئياً. ذلك غير موجود, أنا مسلم هذا يعني أني ملتزم بتعاليم الإسلام وبكل ما افترضه الإسلام على الإنسان المسلم وكذلك بالنسبة للمسيحي. فلذلك أرى أنّ الكلام عن الأصوليّة الإسلاميّة على أنّها مصدر لخوف أوتخوّف البعض, من المسلمين ومن المسيحيّين, يرجع إلى عدم استيعابنا لموقف هؤلاء الملتزمين بالإسلام الذين نسمّيهم الأصوليّين. لا أرى أنّ هناك فرق كبير بين ما يُسمّى "أصولي" وبين ما يُسمّى "ملتزم" أو "متديّن" أو "متمسّك بتعاليم دينه". نحن قد نكون ضد التعصّب الأعمى, ممكن أن نكون ضد التزمّت, لكن لا أستطيع أن أتواجد مع إنسان مسلم وأقول له أنت لا يجب أن تكون ملتزم بالإسلام أو بتعاليم دينك. فهذا هو فهمنا للأصوليّة, لذلك أقول, كوني ملتزماً بالإسلام ذلك لا يعني أبداً أني أشكّل خطراً على الآخر, فأنا لا أشكّل خطراً لا على المسيحي ولا على العربي ولا على المسلم غير الملتزم بتعاليم الأسلام و بالتعاليم النبويّة. من ضمن ما هو متاح في هذا العالم, أنه من حقي أن أكون مسلماً مثلما من حقي أن أكون مسيحياً مثلما من حقي أن أكون أي شيء آخر. هذا متاحٌ لي, إلّا إذا كنّا نريد أن نستحضر بعض الفترات أو الأوهام التي ساوت بين المسلم في إلتزامه وبين كونه عدواً لبعض الفئات من أبناء هذه المنطقة أو من أبناء العالم الغربي. هذا يعود إلى خلفيّة معيّنة, خلفيّتي أنا هي التي تجعلني أتعاطى بطريقة معيّنة مع هذا الإنسان وليس الواقع الذي أعيشه. مثلما هو مسموحٌ لغيري أن يفكّر بحريّة وبالطريقة التي يريدها, أنا أيضاً مسموحٌ لي, كمسلم أو كمسيحي أو كيهودي حتى, أن أفكّر أيضاً بالطريقة التي أرتئيها. هذه مسألة مهمّة جداً ونحن دائماً نخوض فيها, إذ كيف لنا أن نمنع إنساناً من أن يفكّر كما يريد ونسمح لباقي الناس أن يفكروا كما يريدون؟
الآن بالنسبة للمسلم الأصولي الملتزم, لا أعتقد أنه يفكّر بأن ينقطع ويتقوقع ويدخل إلى ذاته ويقفل الباب على نفسه ولا يسمح لأي ضيف أو لأي طارق أن يطرق الباب عليه, هذا غير صحيح. أنا اليوم كـ"مسلم ملتزم" معجب بالحضارة الغربية بكل ما فيها. هذه حضارة إنسانيّة, وأنا لا أكون إنسانيّاً إذ أرفض مثل هذه الحضارة أو مثل هذا التقدّم العلمي لسبب يتضح في النهاية أنه غير إنسانيّ وذو خلفيّة مبنيّة على كره وحقد وعلى أشياء من المفترض أن لا نعيشها في هذه الظروف. أنا كمسلم أحترم الحضارة الغربيّة وأقدّرها وأتطلّع بشوق كي أستفيد من كل معطياتها. وأنا أعتب على الآخرين أنّهم لا يمكّنونني بالشّكل المناسب من أن أفهم وأستوعب وأستفيد من مثل هذه الحضارة. أنا عتبي على الآخرين, فليس أنا الذي أريد أن أتقوقع وليس أنا الذي أريد أن أنقطع عن مثل هذه الحضارة . لا بل على العكس, نحن نعتبر أنفسنا اليوم جزءاً من المجتمع, نتفاعل معه فنؤثّر ونتأثّر به. وفي النهاية أنا لدي طموح ينطلق من عقيدتي ولا يُعادي أي فكر آخر أو حضارة أخرى أو أي شيء إنساني. الآن مَن هو المسؤول عن هذا الإنقطاع؟ أنا لا أعرف, ليس المسلم الأصولي أكيد, وهذه حقيقة. قد يكون بعض الناس المتزمّتين الجهلة أصحاب العصبيّة القبليّة البعيدة عن روحيّة الإسلام. قد يكون ذلك, إنّما الإنسان المسلم الأصولي الملتزم لا أعتقد أنه يفكر بهذه الطريقة التي تفضّل بها الأب سمير, وشكراً.
السيّد طارق عبدالله: أعقّب فقط على آخر ما ورد فيما تفضّل به الأب سمير وأشار إليه حضرة الدكتور الشيخ علي. وكأن الدين هو سبب عدم التواصل بين الحضارات, كما سمعتُ. بينما أنا أرى أنّ السياسة هي المسؤولة أولاً وأخيراً, هي التي سيّست الدين في بعض الحالات. وهذه السياسة, مثلما تفضّل الدكتور علي, هي التي تعمّدت إبقاء العرب والمسلمين في حالة التجهيل ليسهل عليها, أي السياسة الغربيّة الأوروبية الأميركية, ليسهل عليها الإنقضاض على ثروات هذه الأمّة. لأنه إذا ما نهضت هذه الأمّة فكرياً واستوعبت الحضارة التي تميّزوا بها علينا, يصبح هناك عمل الند للند. وفي عمل الند للند لا يعود الأوروبي, صاحب الحضارة المتطوّرة, قادر على استغلالنا واستغلال ثرواتنا. بالإضافة الى الحالة الصهيونيّة التي كانت عامل مؤثّر جداً في التفكير العربي والأسلامي. وهذه الحالة الصهيونيّة المدعومة من الغرب هي التي تسبّبت بهذه الحالة الأصولية المتزمّنة التي نراها. الأصوليّة الأسلاميّة المتزمّتة هي نتيجة الدعم الغربي للحالة الصهيونيّة الدخيلة على الوطن العربي. والعرب جربوا أن ينفتحوا على الحضارة الأوروبية على زمان الشريف حسين, وحاربوا الدولة العثمانيّة المسلمة. تعاونوا مع الإنجليز الحلفاء ضدّ الخلافة الإسلاميّة, الشريف حسين والملك فيصل وإلخ, على أمل أن تنصفهم الدول الأوروبية وتعطيهم حقهم في الكيان والأستقلال. كانت النتيجة المزيد من خيبات الأمل. وهذا عاملٌ جعل العرب حذرين ومنكفئين ومعادين, بسبب هذه المواقف. وهذا قطع الطرق على الإنفتاح العربي الإسلامي على الحضارة الأوروبية كما تفضّلتَ. يبقى نقطة أخرى أشار إليها أيضاً الدكتور وهي الخوف المسيحي من الطغيان الإسلامي في الوطن العربي. وهذه لا أريد الكلام عنها كثيراً لأن الدكتور علي قد أسهب فيها. أنا أرى أن المسلم الحقيقي الواعي يحتضن الإنسان بصرف النظر عن لونه ولغته ودينه, وإلّا لا يكون مسلماً. هذا ما أريد أن أقوله, ولا نريد أن نعود الى الحملات الصليبيّة ومآثرها, واختصرنا أنّ السياسة هي المسؤولة وليست الأديان.
السيّد محمد جمعة: في الواقع أريد أن أتكلّم عن الأصولية. الأصوليّة لا تقتصر على الأديان, كما أنّ هناك أصوليّة في الأديان هناك ايضاً أصولية في العقائد (الأيديولوجيّات). الماركسي ممكن أن يكون أصولي, وباختصار كل مَن يرفض التطوّر والتجديد هو أصولي. أنا أخاف من الأصوليّات مهما كانت, أخاف الأصولية الماركسية والأصوليّة القوميّة كما يخاف المسيحي من الأصولية الإسلاميّة. فإذا أخذت الأصوليّة مفهوم العودة إلى الوراء والتزمّت والعصبويّة فهذا مخيف, مخيف لكل ما هو متطوّر ومتجدّد. يبقى الصراع بين القديم والجديد. القديم مرفوض من أي أصولية أتى وهنا الخطر. الأصولية سواء كانت دينيّة أو أيديولوجيّة ترفض التجديد والتطوّر, هذه نقطة. النقطة الثانية التي أريد أن أتكلّم فيها, نحن عندما نتكلّم عن الغرب, الأنظمة السياسيّة الموجودة في الغرب لا تعني المسيحيّة. فهذه الأنظمة محكومة بأيديولوجيّات رأسمالية و أيديولوجيّات ماركسية, أيديولوجيّات مختلفة لا علاقة لها بالمسيحيّة مطلقاً. فالحاكم في البيت الأبيض لا علاقة له بالمسيحيّة, هو محكوم بأيديولوجية رأسماليّة وعلى هذا الأساس يتعامل مع العالم ومع العالم العربي. أمّا أن لا يسمح لنا الغرب بالتطوّر, فهذه مصلحته. مصلحة الغرب أن لا تتطوّر أو لا تنشأ حضارة في العالم, وأن يبقى العالم سوقاً استهلاكيّاً لمصالحه. المشكلة تقع عندنا نحن, وهي مشكلة الأزمة الحضاريّة التي نعاني منها. أنا برأيي الأزمة الحضارية هي أزمة أمّة مهزومة, أمّة سقطت حضاريّاً. لا يمكن أن تعود إلّا بالإنتصار على الهزيمة المتمثّلة في المفاهيم والتأويلات القديمة, تنتصر على الفقر والتخلّف بكل أنواعه, على الأنظمة السياسيّة المبنيّة على عشائر وقبائل ومفاهيم بدائيّة. وفي الواقع هذا موضوع كبير لن أخوض فيه طويلاً إنّما أضع عناوين. والنقطة الثالثة التي أريد أن أتكلّم فيها, هي خوف المسيحي من الأصوليّة الإسلامية. في الواقع هو محق في هذا الخوف. عندما يريد الأسلام أن يحتضن المسيحيّين, كلمة "يحتضن" هذه, هي إلغاء للآخَر. إلغاء لكيان هذا الإنسان, لوجوده, لبناء مؤسساته, ولبناء مجتمعه. فالتعامل معه بطريقة الإحتضان هو إلغاء لوجوده ولكيانه. فلا يكفي أن أقول إنني أحتضنك حتى تطمئن. إنّما أنا أرى أنّ بناء الدولة العلميّة الحديثة هو الحل, الحل لكل إنسان. الدولة لا تميّز بين إنسان وآخر إلّا بقدر كفاءته العلميّة. ينبغي التمييز بين الدين والدولة. الدين مسألة تربط الفرد بالخالق وتحل مشكلة الفرد بالخالق, ولكن تنظيم المجتمع وبناء المجتمع هذه مسألة دولة. وهذا ما انتبه اليه المأمون عندما انفتح على العلوم لبناء الدولة. بناء الدولة الإسلامية بحاجة إلى المهندسين والأطبّاء والصيادلة والكيمياء والفيزياء. وهذا غير موجود لدى عرب الصحراء عرب اللغة العربية والشعر "الخيل والليل", هذا لا يبني حضارة. إذاً استطاع المأمون أن يفهم الإسلام, وموجودة في القرآن الدعوة إلى استعمال العقل وإلى العلم. استطاع أن يفهم روح الإسلام. وخطأ الحركات الأصوليّة أنّها لا تفهم روح الإسلام إنّما تؤوِّل الإسلام, وغالباً ما تدخل فيها السياسة. وبرأيي هذه هي إشكاليّة الأصوليّة. وشكراً.
الأستاذ سمير الزين: أريد أن أقصر ملاحظاتي على ما تقدّم به الأب. على أهمّية ما تقدّم به, هناك ملاحظات سريعة في ثلاث قضايا. الملاحظة الأولى, الأب أبرز في محاضرته جانباً وأغفل جوانب, ليس عن قصد طبعاً ولكنه أغفلها. أبرزَ دور المسيحيّين في الحضارة العربيّة الإسلاميّة. برأيي أنّ هذا الأمر مُعترف به ولا ينكره أحد, لكن لم تتّضح النتيجة التي يريدها من هذا الإبراز. دور المسيحيّين في الحضارة العربية الإسلاميّة هو دور كبير, وخصوصاً في العهد العبّاسي. عادة أي حضارة لها سمة عامّة, رغم دور المسيحيّين في حركة النقل والترجمة وفي الفكر بشكل عام, لكن بقي شيء اسمه الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وأنا برأيي هذه قوّة تنبع من داخل المجتمع العربي الإسلامي فكراً واقتصاداً وعسكراً. عناصر الحياة في المجتمع هي الغالبة ضمن إطار عربي إسلامي رغم كل الذين ساهموا في تلك الفترة, من مسيحيّين وفرس وروم وغيرهم. كل ذلك شكّل عناصر فرعيّة في الحضارة الغالبة والتي كانت سائدة وهي الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وأعطي مثل أقرب من ذلك, الفكر القومي الراهن حديثاً, ساهم في الفكر القومي العربي مسيحيّين مهمّين وهم أقطاب. من صاطع الحُصري الذي هو أهم مفكّر, وهو مسيحي وأصله سوري. إلى قسطنطين زريق والريحاني والبستاني واليازجي. لكن لم نقل فكر قومي مسيحي لأن الغالب في الحضارة هو فكر قومي عربي سائد. ما الذي يفرض هذه التسمية؟ يفرضها قوة معنوية داخل المجتمع تُحدَّد بعناصر متعدّدة, يدخل فيها الفكر والتشريع والإقتصاد والقوة العسكريّة كذلك. لماذا حضارة الغرب هي السائدة الآن رغم أن مكوّناتها من حضارات متعدّدة؟ الحضارة الغربية هي السائدة الآن لأنها هي تستفيد من هذه الحضارات ولها صفة غالبة إقتصادياً وعسكرياً وعلمياً. أبونا أنت أبرزت الموضوع ولكن كان بحاجة الى تكملة. الملاحظة الثانية, ركزتَ على نقطتين حول الحضارة العبّاسيّة, وبرأيي فيهما أيضاً نقص ما. كان هناك سببين لتقدّم الحضارة العبّاسية, همّة الخلفاء العبّاسيين وانفتاحهم على ما هو قيّم, وانفناح المسيحيّين السريان على الحضارة الإسلاميّة. برأيي هذا غير كافٍ, الحضارة العباسية هي بمكوناتها الداخلية, أي الفكر الإسلامي العربي نفسه. كما وأنّ حاجيات المجتمع في تلك الفترة هي ما فرضت سمة ما يسمّى "حضارة عبّاسية". هناك قوى إجتماعيّة, عربيّة إسلاميّة, كانت تبرز في تلك الفترة. قوى كانت تتشكّل في المجتمع على زمن المأمون وكانت بحاجة للترجمة وبحاجة الى الإطلاع على الفكر الآخر, الفكر اليوناني. وفي تلك الفترة اعتنق المأمون مبدأ المعتزلة وليس مبدأ الأشعريّة, لماذا؟ لأن العقل كان هو الغالب في نظريّاتهم, فكان المجتمع بحاجة الى النظريّات العقليّة. وأكثر فكر متقدّم عقلياً في تلك الفترة هو فكر المعتزلة والذي هو إسلامي بتكوينه الفعلي. هذا كان العنصر الأقوى في التطوّر الحضاري للعهد العبّاسي. ما أقصده تماماً أنّ الحضارات تكمن في ذاتيّاتها عناصر غالبة, وكان الغالب عنصر عربي إسلامي فكري في تلك الفترة من العهد العباسي. واستعانت بقوى أخرى وهي المترجمين السريان, المسيحيّين في انتمائهم. النقطة الثالثة والتي تحتاج إلى نقاش, ما ختمت به حضرتك. وهو سؤال مهم جداً وليس له إجابة حتى اللحظة وهو, ماذا الآن؟ ما هو المطلوب إذا ما أردنا أن نقوم بنهضة عربيّة حاليّاً؟ حضرتك طرحتَ أن تتم عمليّة النهوض باستيعاب ما هو قيّم من العصر الحالي وأن لا ننسى الجذور والتراث, وبرأيي هذه محاولة قام بها الكثير. قديما جداً قام بها الفارابي وابن سينا للتوفيق بين الشريعة والفلسفة, وكانت هذه قضيّة فكرية كبيرة جداً في تلك الفترة. وحديثاً في منتصف القرن التاسع عشر والقرن العشرين قام بها محمد عبده والأفغاني وتبعهم الكواكبي وشكيب أرسلان وأحمد لطفي والسيّد. وجميعها كانت محاولات جدّية وكبرى للتوفيق بين الغرب والدين, وبرأيي لم تنجح. لذلك أطرح السؤال من جديد, بعد كل هذه المحاولات التي لم فشلت في إنجاح المشروع النهضوي, فماذا الآن؟ أنا وأنت وكلّنا نبحث عن الجواب. كيف ننهض بقوى جديدة, بإستشراف فكري جديد؟ هذا ما نحتاج اليه. وشكراً.
السيّد محمد جمعة: النقطة الأخيرة التي أثارها الأستاذ سمير الزين. في الواقع لدينا الأصالة والمعاصرة والتطوير, القديم والجديد. هنا الأزمة, نحن نعيش أزمة حضارية. الأزمة الحضارية مقسومة. هناك المنابع التي تغذي التيّارات التي تكلم عنها في عصر النهضة. إمّا الدين والتراث أو الغرب والتغريب في كل أشكاله وأنواعه. بالتالي نستطيع أن نقول بين الدين والعلم. هذا الصراع القائم بين الدين والعلم, وما تكلم عنه الأستاذ سمير إذ حاول الفلاسفة العرب أن يوفّقوا ولم ينجحوا. وفيما بعد في عصر النّهضة حصل الشيء ذاته.
الدين له مسلّمات, الدين مطلق لا يقبل التغيير. وكذلك العلم ينطلق من مسلّمات وينسب لنفسه الحقيقة المطلقة, وكلّنا يعرف أنّ النظريّة تكون صائبة ومطلقة وبعد مرور زمن يتبيّن فشلها. لذلك هذا الصراع ما بين الدين والعلم, ما بين الوثوقيّة والمسلّمات والمطلق, هو الذي أدّى إلى الكوارث في العالم العربي والعالم الإسلامي. أدّى إلى تمزيق المجتمعات وتمزيق الأحزاب وتمزيق الأديان إلى مذاهب. وأدّى بالتالي إلى الأزمة الحضارية. وبرأيي أنّ الخروج من المأزق الحضاري هو أن نبدّل المطلق بالمسألة النسبيّة. النسبيّة في التفكير, بحيث أنا أعترف بالآخر والآخر يعترف بي. الإعتراف المتبادل على قاعدة النسبيّة في التفكير, وشطب المطلق سواء كان دينياً أو علمياً. خاصة في مسألة بناء الدولة وفي مسألة التعامل الإجتماعي. النسيبة إن أردت أن أوضّحها هي شبيهة بالديمقراطية. مثلما تقبل الديمقراطية المعارضة والموالات, هذا ما أعنيه بالنسبيّة. أنا أعترف بك وأنت تعترف بي ويبدأ الصراع الحضاري. من هنا نوقف حملات التأثير والتكفير والإبادة والقتل والتشويه. وبرأيي إذا ساد هذا النوع من التفكير النسبي يساعدنا على الخروج من المأزق الحضاري. شكراً.
الدكتور بهيج: أشكر الأب الذي أتحفنا بخلاصةٍ قيّمة, ووضعنا في جو المحاضرة السابقة التي لم نكن حاضرين فيها. ولكنني أريد أن أعود إلى الأصول, إلى حيث بدأ عدد المسيحيّين بالتناقص. أنا أظن بأنّ هناك عدة أسباب. كان المسيحيّون يشكّلون عدداً لا بأس به في ما قبل العهد العباسي وفي العصر الأموي. إنّما بعد سنة ألف, كما قلتَ, تناقص هذا العدد بالهجرة والحقيقة أنه لم يتناقص بالهجرة.
الأب سمير اليسوعي: أنا لم أقل بالهجرة, اعتنقوا الإسلام.
الدكتور بهيج: اليوم بالهجرة, ومن هنا أنا أستنتج بأنّ الحضارة الإسلاميّة لم تعد حضارة إسلاميّة صرفة. بدخول المسيحيّين واعتناقهم الإسلام, الديانتين أو الحضارتين المسيحيّة والأسلاميّة تفاعلتا وتوحّدتا, ومن هذا التفاعل نشأت الحضارة التي يسمّونها "إسلاميّة". ولهذا, اليوم أتمنى وأرغب بأن لا نفكر في حضارة إسلاميّة وحضارة مسيحيّة. علينا في الوقت الحاضر, أو في العهد الحاضر الذي أصبح فيه العالم قريباً جداً إلى بعضه البعض, أن نوحّد بين الحضارات الدينيّة ولنسمّيها الحضارات الإنسانيّة سواء كانت غربية أم شرقيّة. وشكراً.
الأب سمير خليل اليسوعي: أولاً هناك نقاط بسيطة فيما يخصّ الأخ سمير. لم يكن هدفي إغفال أي شيء, ولكن إذا كان هناك موضوع فأنا أتقيّد في هذا الموضوع. وكان الموضوع المطروح عليّ دور المسيحيّين في العهد العباسي في بناء الحضارة العربية الإسلاميّة. أنا أركّز على موضوع معيّن لأنّ هذا مطلوب مني وليس لإغفال شيء. ومن الواضح أنّه مهما كان هذا الدور محدود في الكم وفي الزمن وفي التأثير, إلّا أنّه دور وله أهمّية. النقطة الثانية عن العصر العباسي, كل عصر وكل نظام له نظرة وهذا أكيد. لكن سؤالي, لماذا لم تتم نفس الحركة أيّام المماليك أو أيّام العثمانيّين؟ ولم تتم بهذه الكثرة أيّام الأمويّين وإنّما تمّت أكثر أيّام العبّاسيّين؟ فكلهم ينتمون إلى الإسلام ولا أعتقد أنّ ذلك هو السبب. إنّما العبّاسيين, لأسباب الخبراء يدرسونها ولست من خبراء العصر العبّاسي, كان لديهم هذه النظرة المنفتحة, ربّما لمضاربة الحضارة العربيّة الأمويّة. وانتقلوا الى بغداد وخلقوا بغداد, واقتربوا من الفرس ومن العجم جغرافيّاً وحضاريّاً, والإدارة كلّها من أهل الفرس أساساً, والجيش كان تركياً في الأساس. مع انتشار الدولة الإسلاميّة انفتحوا على خصائص كل مجموعة. الفرس إداريّين أدخلوهم وأدخلوا البرامكة. الأتراك منظِّمين وحربيّين فأدخلوهم في الجيش. السريان علماء و أدباء ومفكّرين استعملوهم. هذه نظرتهم, نظرة منفتحة على كل القيم, منفتحة إطلاقاً. واتُهموا ومازالوا يُتّهمون إلى اليوم بالكفر لأنهم كانوا يشربون, وقبل منهم يزيد الأموي. لأنهم نظروا إلى الإسلام نظرة قد تكون ناقصة, إنّما نظروا إليه كحضارة أكثر مما نظروا إلى الإسلام كدين, وهذا لا يمسّ الإسلام إطلاقاً, هذا من أمر أي حاكم. وبالمناسبة, لماذا انفتحوا على الإعتزال وليس على الأشاعرة؟ لأن الأشعريّة أتوا في القرن العاشر والمأمون في القرن التاسع, ورأوا في الأعتزال نظرة منفتحة أدخلت العقل في الدين, فناسبهم ذلك. السؤال المهم المطروح, لماذا لم تنجح النهضة؟ أولاً, شخصياً أميّز بين نهضتين. النهضة الأولى تاريخياً, وهي نهضة ثقافيّة حضاريّة أدبيّة التي قام بها الشوام إجمالاً من سوريا ولبنان وإن استوطنوا في مصر. وهي نهضة حضارية, انفتاح على الغرب بشتّى الوسائل, من الأدب والشعر إلى الصحافة, والسينما فيما بعد, الى خلق التيّارات الجديدة والى الداروينيّة والى كل ما في هذه الحركة. وكانوا يُعتبرون ملحدين, كلهم تمّت مقاومتهم ومن ضمن الذين تمت مقاومتهم الأب لويس شيخو اليسوعي مؤسّس مجلّة "المشرق". لأنهم ليبراليّون والآخرين متديّنون. هذه هي المرحلة الثانية في النهضة, المرحلة الأولى مرحلة حضاريّة ثقافيّة محضة بدأت في نظري في حلب ولا أريد ان أدخل في هذا الموضوع فهو طويل.
لماذا لم تنجح؟ المرحلة الثانية هي التي لم تنجح في نظري. إذا قارنّا مثلاً بين الشيخ الإمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا, الفرق شاسع وواضح جداً في "تفسير المنار". أينما فتح الشيخ الإمام الباب أغلقه الشيخ التلميذ بطريقة عجيبة. هو كما كنّا نقول في مصر على أيّام السادات؛ السادات كان دائماً يقول: "وماذا كان يفعل المرحوم جمال عبد الناصر؟" ويُقال في النكت عندما كان في سيّارته سأل السائق: "إلى أين كان يتّجه المرحوم؟" فأجابه بأنّه كان دائماً يتّجه إلى اليسار. فقال له: "يا محمد ضع الإشارة إلى اليسار وخُذ يمين". وكان دائما يردّد في خطاب الثورة وفي خطاب عبد الناصر ويعمل العكس. وهذا تقريباً ما فعله رشيد رضا. وفي نظري رشيد رضا هو مَن أدخل الأصولية في حركة النهضة الإسلامية المعاصرة, هو بداية التيّار الأصولي, وسأعود فيما بعد إلى مفهوم التيّار الأصولي, ومن تلاميذه الشيخ حسن البنّى مؤسّس الإخوان, والسيّد قطب من تلاميذ حسن البنّى. والتيّار زادَ, مثلاً حسن البنّى لم يقبل إطلاقاً استعمال العنف, رفض العنف ولكنه كان يريد مجتمعاً إسلاميّاً كاملاً. والإسلام يشمل جميع مظاهر الحياة اليوميّة, هذا كان هدفه أسلمة المجتمع. ذهب سيّد قطب إلى أبعد من ذلك وأدخل مفهوم الجاهليّة, أنّ كل ما ليس بإسلام فهو جاهليّة. والجماعات الإسلاميّة, لا أعرف ما هو التيّار الموجود هنا, لكن الجماعات الإسلاميّة التي أعرفها في مصر ذهبت إلى أبعد من ذلك وقالت بصلاحيّة العنف لقتل الغاصب من أجل إنقاظ الدين والإيمان. ورأينا ذلك في دفاعهم في محاكمة قاتلي السادات, وهذا العنف مستمرٌّ حتى اليوم.
لماذا نجحت في الأول ثم لم تنجح؟ نجحت لأنّ محمّد عبده وجمال الدين الأفغاني وشكيب أرسلان ـــــ كتاب شكيب أرسلان الشهير "لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم" يُعاد طبعة مراراً, والشيخ تميم أعاد طبعه منذ بضع سنين ـــــ هم نظروا إلى الغرب نظرة منفصلة عن الدين, لم يربطوا الغرب بدين ما ولكنهم نظروا إليه نظرة حضاريّة محضة. لماذا تغلّب الغرب علينا؟ لأنّ عندهم العِلم ولأنّ عندهم الديمقراطيّة وكانت هاتين الفكرتين الأساسيّتين, العلم والديمقراطيّة. ثمّ علّقوا على ذلك فقالوا: "أمّا العلم فمن جوهر الإسلام إنطلاقاً من القرآن ومن الأحاديث, وأمّا الديمقراطيّة فهي أساس النظام الإسلامي لأنّ الشورى هي أساس النظام الإسلامي". وفي الواقع هنا, في نظري, تقصير في التحليل لأنّ الديمقراطيّة تختلف عن الشّورى. الديمقراطيّة مفهوم سياسي محدَّد بينما الشورى مفهوم فلسفي, بشري, حِكمي موجود في كل المجتمعات. فقالوا لا صراع بين الغرب والإسلام وعلينا أن نتّخذ ما أوصل الغرب إلى السيطرة لنقوم بالنّهضة. إلّا أنّ مَن أتى بعدهم ضاهى بين الغرب والمسيحيّة. وحتى اليوم نرى في بلاد عديدة مضاهاة بين غربي ونصراني. في لغة المغرب كلمه "أوروبي" تعني "نصراني" حتى وإن كان ملحدا.ً وهنا مفهوم آخر أساسي أريد أن أذكره وإن صعُب علينا مناقشته: طالما لم يقبل المسلمون شرعيّة الإلحاد, لا إمكانية للحياة الديمقراطيّة ولا مجال لدولة ديمقراطيّة.
وهنا أدخل شيئاً فشيئاً في موضوع الأصوليّة لأنّ لها دور مهمّ في نقاشنا. لم أقل إطلاقاً أنّ الدين الإسلامي كان سبباً في عدم التواصل مع تراثنا الغربي أو في التأخر, لست أرى ذلك ولم أقل به. صحيح أنّ الأصوليّة لا تعني التزمّت في حد ذاته, الأصولية تعني العودة إلى الأصل. وكل إنسان يجب أن يتأصّل, وهذا ما قلته في الخلاصة. ولكن إني مقتنع أنّ الأصوليّة ليست مجرّد التزام. كل أصولي ملتزم بدينه وهذا واضح, وليس كلّ ملتزم بدينه أصولي. النقطة الأساسيّة أنّ ما أخشاه عند الأصولي, بالمعنى العادي للكلمة, هو أن أن تؤدّي الأصوليّة إلى مفهومٍ واحدٍ للدين. الأصولي يقول: "إني أريد أن أتمسّك بالدين بحذافيره وبكل ما يعنيه الدين والشريع